في إحدى الوزارات وجدت شاباً مفتول العضلات قوي البنية حسبته موظفاً في أول الأمر، وتألمت لأن هذه العضلات طاقة معطلة، إذ إن الموظف لا يستعمل سوى قلم لا يحتاج إلى قوة بدنية، وزاد تألمي حينما علمت أن هذا الشاب يعمل في وظيفة فراش، لقد حمل إبريق الشاي أمامي، فأغمضت عيني وتصورت الإبريق مطرقة ضخمة يهوي بها هذا الساعد القوي على كتل الحديد لتتلوى طائعة ذليلة!!
ولم أتمالك نفسي، انفردت بصاحبنا وسألته: لماذا لا تتعلم مهنة أكثر فائدة لك ولوطنك وابتسم ابتسامة صفراء، وقال لي: قل لي لماذا لا تبحث عن مهنة، أما التعلم فقد تعلمت وتدربت على النجارة وبعد تخرجي لم أترك ورشة للنجارة إلا ودخلتها، بل ترددت عليها كمن يطلب إحساناً، والجواب الجاهز دائماً: (آسفين ليس لدينا عمل).
وفكرت في افتتاح ورشة خاصة بي، ولكن أين رأس المال، أين إيجار المحل وقيمة الأخشاب، ثم من يضمن الوقوف في وجه منافسة الورش التي كسبت خبرة وشهرة على مر السنوات؟
وتوقف محدثي عن الكلام ونظرت إليه فإذا هو يتحسس عضلاته، ثم تابع كلامه قائلاً: لقد دب الوهن في نفسي وجسمي ولم أستطع مقاومة حاجتي إلى دخل، أي دخل فالتحقت بعمل فراش كما ترى..!
وبكل قوة عضلاته التقط الإبريق فكاد أن ينفجر وقفزت من مقعدي وأمامي ترتسم علامة استفهام كبيرة يسبقها سؤال أكبر منها وهو: كيف يمكن أن يؤمن العمل لخريجي مراكز التدريب المهني.. الذين تصرف المبالغ الطائلة لتدريبهم ثم لا يستفيدون ولا يستفاد من تدريبهم إلا نادراً..؟
البحث عن الجواب
وأخذت أطرح هذا السؤال في كل مجلس (وهذه عادتي كلما أردت الكتابة في موضوع معين) وسمعت الكثير من الأجوبة، بعضم قال: إن المسألة تحتاج إلى توعية خريجي هذه المراكز، ذلك أن أكثرهم يلتحق بالمركز ليقبض الراتب فقط، وفي قرارة نفسه أنه لن يعمل في المهنة التي يتدرب عليها، لأنها تحتاج إلى ارتداء بدلة العمل الخشنة والملوثة بالزيوت!! وقال آخرون إن عدم الاستفادة من خريجي مراكز التدريب راجع إلى عدم قدرتهم على منافسة العامل غير السعودي الذي أخذ (الصنعة) بالخبرة والمران فهو أكثر خبرة عملية وأقل أجراً.. ولهذا لا بد من حماية العامل الفني السعودي من المنافسة وذلك بمنع غير السعوديين من ممارسة أي مهنة يتوفر العدد الكافي من السعوديين للعمل بها..!
إيجاد ورش تعاونية!
وأخيراً وجدت الجواب الأكثر معقولية وهو أن تعمل وزارة العمل والشئون الاجتماعية بالتعاون مع مركز الأبحاث والتنمية الصناعية والجمعيات التعاونية على إيجاد ورش مجهزة للنجارة والسباكة والحدادة والخراطة والسمكرة وغير ذلك من المهن وتؤجَّر هذه الورش بأجور رمزية على خريجي المراكز المهنية أو يتفق معهم للعمل بها لحساب الجمعيات التعاونية لمدة عام أو عامين، حيث يمكن للمتخرج خلال هذه المدة أن يكسب مزيداً من الخبرة وأن يتعود على ارتداء بدلة العمل الزرقاء كما يدخر ما يستطيع أن يؤسس به ورشة لحسابه الخاص. ويمكن للوزارة أن تنص في شروط الالتحاق بمراكز التدريب أن يعمل المتخرج مدة عام أو عامين بعد تخرجه في الورشة التعاونية ومن لم يقبل العمل في هذه الورشة عليه أن يرد كل ما تسلَّم من مرتبات وما صرف عليه من نفقات خلال مدة دراسته بمركز التدريب وبهذا الشرط نضمن أن الملتحق بالمركز سيعمل في المهنة فعلاً وليس قصده تسلُّم الراتب أثناء الدراسة فقط، وبذلك نضمن أيضاً أن يمسك الخريج في يده مطرقة وليس إبريقاً..!
استراحة
لا بد للمحارب من استراحة ولا بد للعامل من لحظات يلتقط فيها أنفاسه ويمسح عرقه بها وإذا طبقت هذا القول على نفسي فسامح الله من أوهمني بأنني محارب وبأنني عامل جاد عابس الوجه.. لقد سألني أكثر من مرة: متى ترتاح..؟ ولم أفهم قصده.. فأوضح ما يريد فقال: متى نقرأ لك موضوعاً هو للهزل أقرب من الجد..!!
وكان جوابي له انتظر قليلاً فإن الصيف على الأبواب وما أكثر لغو الصيف، كما قال طه حسين..!
ولم يقتنع فعاد يتساءل بخبث: كل الشباب أمثالك يكتبون عن الحب والليل والضياع والانسحاق على الأرصفة، وأنت.. تكتب عن العقارات والمرور والبلدية.. إن خير تعريف لك أنك شاب يكتب بقلم شخص يكبره بسنوات وسنوات.. فهل أجد لديك تفسيراً لذلك..!
واستعدت في ذاكرتي ما كتبت خلال السنوات التسع التي تشرفت خلالها بالانتساب لبلاط صاحبة الجلالة.. فإذا قول صاحبنا فيه نسبة كبيرة من الصحة إذ إن الموضوعات التي هي أقرب للهزل منها للجد تعد على الأصابع، وللأسف أنها هي التي بقت في الأذهان ومنها الانطباعات عن رحلة إلى أثينا واستامبول وموضوع عن السرقات الأدبية..!
وأردت أن أنتقل من دور الدفاع إلى دور الهجوم فسألت محدثي عن المواضيع التي يمكن أن أكتب فيها بين حين وآخر لأرتاح من عناء الجد.. وتوقعت أنه سيحتار.. ولكنه سرد لي وبكل سهولة قائمة طويلة عريضة منها ما يوحي به حلول الليل وإشراق النهار وهطول المطر ولحظات الغروب!
وأمسكت قلمي لأكتب.. فإذن هو يشطح إلى الجد ويأبى أسلوب (اللت والعجن) الذي يستحيل معه أن تستخلص ما يريد أن يقوله الكاتب، بل إنه من الصعب معرفة أول الموضوع من آخره، وأذكر بالمناسبة أن أديباً كبيراً ينقد كتابات التائهين والضائعين.. قص مقالة لأحد هؤلاء الشباب وجعل الجزء الأخير منها هو المقدمة وأسمعه لشاب آخر فهز رأسه استحساناً وإعجاباً!!
إنه موضوع يطول الحديث فيه ولكنني رغم ذلك أعد صاحبنا بأن أرتاح على الطريقة التي أرادها.
|