بينما نحن نتتبع باستمتاع ونشوة تفاصيل تطويق عملية الرشوة التي تمت في وزارة الصحة، إحدى الصحف المحلية تنشر خبرا (بالمانشيت العريض) بأن الراشي ليس إلا سعوديا (بالتجنس) ، وكأنها من خلال هذا تقدم رسالة خفية عن المبرر أو المسوغ الذي يجعل منه يلجأ إلى الفساد والانحطاط الخلقي كونه خارج الدائرة المقدسة للشعب المصفى المنقى عن الدنس.
فهذه النوعية من الطرح إضافة إلى تخلفها فإنها تحمل في أعماقها إحدى الخصائص الثقافية التي نحاول أن نخرج بها إلى العالم من حولنا، بالضبط هذا النوع من الطرح هو الذي يجعل الكثيرين منا يتمسك بما يسمونه (الخصوصية) المحلية التي تجعل منا شعوبا تعيش في دائرة التمام والكمال الإنساني المنزه عن الخطأ، وهذا النوع من الطرح هو أحد الأوجه لتلك الشوفينية التي تجعلنا نؤمن بأننا وحدنا نملك الحلول لجميع مشاكل العالم والمشاعل الذي ستضيء الأماكن الدامسة، فتجد شبابنا متناثرين في بقاع الأرض تحت أوهام وخزعبلات (إصلاح الكون) .
وهذا الطرح هو بالتأكيد الذي يجعلنا في حالة استرابة دائمة من التجديد ومن الآخر سواء على مستوى التعامل الاقتصادي أو الفكري أو سواه من المجالات التي نباشر بها العالم الخارجي، وهذا الطرح الذي يحاول أن يتسلق ظرفا اقتصاديا طارئا حل على هذا المكان من خلال الطفرة النفطية التي جعلت شعوب العالم تتقاطر إلينا ومن ثم جعلتنا نصنع تلك الجداول الخفية السرية المكهربة التي يختفي خلف خطوطها قائمة طويلة من التصنيفات الهرمية، كسعودي أصلي وآخر تقليد (بالتجنس) وثالث وافد وآخرون ينحدرون إلى مستوى العمالة الوافدة، حيث تميل طروحاتنا الإعلامية إلى جعل تلك العمالة هي المصدر الأول للدمار والخراب والفساد الإداري والأخلاقي... وسواه.
استمدت الولايات المتحدة عظمتها من كونها (multi cultures pot) أي وعاء جمع شعوب العالم لصناعة حضارة قوية ومهيمنة، وتعلم أمريكا أن سر قوتها وهيمنتها هو ترسيخ الروح الوطنية وإذابة الفوارق والحواجز بين الشعوب والانصهار في الحلم الأمريكي، لم يقل أحد عن كلينتون مثلا بأنه أمريكي بالتجنس لأنه من أصول أيرلندية، ولم يقولوا عن آينشتاين الذي جعل منها دولة عظمى من خلال القنبلة الذرية بأنه أمريكي بالتجنس من أصول ألمانية، ولم يقل أحد عن توني مورسون الفائزة بجائزة (نوبل) في الأدب بأنها أمريكية بالتجنس من أصول إفريقية.
وهذا بالتحديد سر هذه البوتقة العظيمة التي صهرت تلك الشعوب وجعلتها تتجه نحو حلم موحد... وهي أيضا احدى أشكال تخلفنا.... التي تجعلنا نبرر قصورنا بأنه خصوصية... وفسادنا بأنه... غريب ومتجنس.
|