تساءل الدكتور محمد الهاشمي في حلقة من حلقاته التي تناول بها التاريخ السعودي في قناة المستقلة الفضائية عن سر العلاقة بين الإمام محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبدالوهاب، واستمرار تلك العلاقة بين الأبناء، ولم يحصل على مدى قرون ما يعكر صفوها، وبخاصة في ظل مقارنة طرحها د. محمد الهاشمي بينها وبين علاقات في بعض البلاد العربية التي قامت فيها السلطة على تحالف سياسي - ديني إلا أنها لم تستمر بسبب الأطماع واختلاف وجهات النظر حول قضايا دنيوية، وعلق المحاضرون والمناقشون ذلك الاستمرار على اللقاء الذي تم بين الإمام والشيخ دون نص على أنه كان بيعة شرعية لولي الأمر تحقيقا لنصوص شرعية تحذر من الخيانة والخروج والثورة تحت أي مسوغ لا يتفق مع مذهب أهل السنة والجماعة، ولم يقتصر الأمر على الشيخ والعلماء في ذلك الوقت، بل استمرت هذه البيعة في أبنائه للأئمة الحكام الذين استفادت منهم الدعوة السلفية لتصل إلى أبعد ما وصلت إليه.. قال الشيخ محمد بن عبدالوهاب تقريراً لهذه المسألة: (الأئمة يجمعون من كل مذهب على أن من تغلب على بلد أو بلدان له حكم الإمام في جميع الأشياء، ولولا هذا ما استقامت الدنيا لأن الناس من زمن طويل قبل الإمام أحمد إلى يومنا هذا ما اجتمعوا على إمام واحد) قاله في الدرر السنية في الأجوبة النجدية، وفي مجموعة المؤلفات الكاملة عن الشيخ محمد بن عبدالوهاب أنه قال: ولهذا أمر صلى الله عليه وسلم أمته بتولية ولاة الأمور عليهم، وأمر ولاة الأمور أن يؤدوا الأمانة، وأن يحكموا بالعدل، وأمر بطاعتهم، فلأبي داود عن أبي سعيد مرفوعاً: ( إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم)، وله عن ابي هريرة مثله، فيه تنبيه على الوجوب في ما هو أكثر من ذلك.
وأما مصطلح ولي الأمر فهو من المصطلحات الشرعية في الإسلام التي يجب أن توضع في منزلتها التي حددها الشرع تديُّناً دون إساءة واستغلال سواء من الراعي تجاه رعيته أو من الرعية تجاه الراعي وبخاصة أننا في ظل نصوص نظمت هذه العلاقة بين الطرفين بلا إفراط ولا تفريط فيما يخدم مصلحة الأمة ويحقق لها الأمن والأمان من خلال تطبيق الحدود والدعوة إلى الله وتوفير سبل العيش الكريم، ومن أجل ذلك أعطى الشرع الإمام صلاحيات لم يعطها غيره إلى درجة جواز القتل تعزيراً، بل رأيه يرفع الخلاف الحادث في مسائل الاجتهاد مع التركيز على أن هذا الأمر مسؤوليات قبل أن يكون صلاحيات، ولم ينس الشرع المطهر أهمية صلاح الراعي وتحقيقه العدل والمساواة في أمته حتى جعله الله جل وعلا من السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم القيامة حين لا ينفع مال ولا بنون إلى من أتى الله بقلب سليم. ومن الركائز التي قام عليها منهج المجدد الشيخ محمد بن عبدالوهاب هذا الأمر، وبيانه على طريقة السلف الصالح الذين استفادوا من الأخطاء التي وقعت عندما نُزِّلت النصوص في غير موضعها كوقعة الحرة المشهورة؛ ولذلك كانوا يشددون على من ينقص السلطان في نظر العامة ويشوه سمعته حتى عدوه علامة من علامات البدعة والمبتدعة واشترطوا لنصحه أن يكون سراً حفاظاً على هيبته وهيبة الدولة المسلمة حتى قال سهل بن عبدالله التستري: (لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء، فإن عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم، وإن استخفوا بهذين أفسدوا دنياهم وأخراهم) وما أجمل أن يلمس المسلمون فيما بينهم صفات الرحمة والشفقة والاحترام حكاماً ومحكومين، إذ لا يمكن أن تستفيد الأمة شيئا من إشاعة ثقافة السبّ والشتم والقساوة والانتقام فيما بينهم حكاماً ومحكومين، فما أحوج بعضهم إلى بعض، ولزوال الدنيا أهون من كلمة أو حكم يكون سبباً في فتح باب شر لا تحمد عقباه، ولذلك أخرج ابن عبد البر في (التمهيد) وأبو عمرو الداني في (الفتن) عن أبي اسحاق السبيعي أنه قال: (ما سبّ قوم أميرهم إلا حُرِموا خيرَه)، وذكر ابن الجوزي في مناقب معروف الكرخي وأخباره بمسنده عن طريق ابن حكمان أن معروفاً قال: (ومَن لعن إمامه حُرِم عدله) ، وإذا وضعنا النقاط على الحروف بكل صدق نجد أن انعدام هذه الحاكمية والاختلاف عليها هي السبب الرئيس في انتشار ثقافة العنف والإرهاب ابتداء من القرن الأول الهجري وانتهاء بهذا العصر، لأن الشيطان أعان المسلمين بعضهم على بعض؛ فزين لهم هذه القسوة ضد بعضهم ولبس عليهم حتى عدوها من الإسلام الذي جاء بالعدل والرحمة في ذلك الجسد الواحد والذي إن اشتكى منه عضو تداعى له ذلك الجسد بالسهر والحمى، فأين نحن من هذا الشعور في ظل فهم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} ومما تجدر الإشارة إليه أن المقصود في قوله {وَأُوْلِي الأَمْرِ} هم الحكام والأمراء حتى وإن ذهب بعض أهل العلم إلى أنهم أهل العلم والفقه أو عامة تشمل الصنفين (الأمراء والعلماء) للأدلة التالية:
1 - أن العلماء لا سلطة لهم في إلزام الناس بشيء وإنما السلطة للحكام وبالتالي تصرف الطاعة لهم، مع أنه لا تنكر أهمية العلماء في مساعدته وإعانته، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله : (إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بطاعة الأئمة الموجودين المعلومين الذين لهم سلطان يقدرون به على سياسة الناس لا بطاعة معدوم ولا مجهول، ولا من ليس له سلطة ولا قدرة على شيء اصلاً.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصا الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني) وكل الأحاديث الواردة في هذا الباب تفسر مصطلح ولي الأمر الذي تجب طاعته بالحاكم المسلم.
والمقصود الشرعي من تلك الطاعة هو جمع الكلمة ووحدة الصف، وهذا لا يتأتى إذا كان للأمة ألف واحد تجب طاعته لأنه يستحيل اتفاقهم، ثم إن بعض العلماء قد يرى رأياً يخالفه فيه الآخرون، فمن تطيع الأمة حينئذ وقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من رأى من أميره شيئاً فكرهه فليصبر، فإنه ليس لأحد أن يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية).
2 - أن الحكام في الإسلام هم الذين يعيّنون العلماء والمفتين والقضاة نواباً عنهم في الفصل بين الناس، فطاعتهم من باب طاعة ولي الأمر، وإلا فهم مستشارون، قال سهل بن عبدالله التستري: (إنه إذا نهى السلطان العالم أن يفتي فليس له أن يفتي فإن أفتى فهو عاصٍ، وإن كان اميراً جائراً، ولا يجوز لعالم من العلماء أن ينكر بيده إلا بإذن السلطان، كما لا يحق لذلك العالم أن يُلزم الناس فما عليه إلا البلاغ).
3 - قال ابن جرير الطبري في تفسير الآية: وأوْلَى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال هم الأمراء والولاة، لصحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بطاعة الأئمة والولاة فيما كان طاعة، وللمسلمين مصلحة.. وهو اختيار القرطبي الذي نص على أنه قول الجمهور وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم.. واختار البيهقي الذي استدل لاختياره في الجامع لشعب الإيمان بحديث نزول هذه الآية إذ نزلت في عبدالله بن حذافة السهمي، إذ بعثه المصطفى صلى الله عليه وسلم في سرية، وقد تنبه الشيخ السعدي في تفسيره إلى السر الذي أدى إلى حذف الفعل عند الأمر بطاعة ولاة الأمر فقال: ( وذكره مع طاعة الرسول، فإن الرسول لا يأمر إلا بطاعة الله، ومن يطعه فقد أطاع الله، وأما أولو الأمر فشرط الأمر بطاعتهم أن لا يكون معصية) والحديث في هذا المقام يطول، ولكن الواجب أن نحترم كبيرنا ونعطف على صغيرنا ونعرف لولاتنا منزلتهم ولعلمائنا قدرهم كما قال تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً}. والله من وراء القصد.
* الإمارات العربية المتحدة
|