يسعد الإنسان أيما سعادة حينما يجد من يشاطره هما أو يشاركه طموحا ما ، فكيف به إذا وجد من يحمل هذا الهم أكبر مما يحمله هو ، ويتعامل معه بمخالطة يومية تفوق القدر الذي يجده في نفسه .. كان ذاك شعوري وأنا أتصفح بعين سعيدة ونفس مشرئبة مقال الدكتور خالد الشريدة الذي عنوانه (مراكز الأحياء الترفيهية .. ضرورية حضارية) ، بل أزيد القارئ القول بأكثر مما ذكره أخي الدكتور خالد : إن هذه المراكز في حالة نضوج فكرتها واستوائها على سوقها ستكون أكثر من الضرورة في الحياة اليومية للأحياء وساكنيها ، وستكون من المرغبات للسكنى في حي دون آخر في المدينة الواحدة ، بل وأعتقد أنها ستكون من الميزات التي تُذكر عند الإعلان عن بيع منزل أو طلب منزل للبيع أو للإيجار ، كيف لا تكون كذلك وهي الرئة الاجتماعية التي يُنتظر أن يتنفس من خلالها الحي وساكنوه بمختلف شرائحهم وتنوع مشاربهم وتفاوت أعمارهم ، وسيكون بمثابة الحضن الاجتماعي والمحضن التربوي والمورد الثقافي الجامع لساكني الحي بأبدانهم وأرواحهم ، والعامل على تحقيق ترابطهم الأسري والمجتمعي على حد سواء.
إن التفصيل الذي سرده الدكتور خالد في مقاله يوحي بمستقبل واعد للعمل الاجتماعي في الأحياء بعد غياب طويل كان يُرجى ألا يطول غيابه في حياتنا ، فإن مما يميز المدينة في الحضارة الإسلامية ذلك التشكيل الرائع للحي في ساكنيه وتأثيره في نمط حياتهم اليومية ، ولكن هذا كان قبل أن نتقولب في مخططات سكنية رسمت بالمسطرة الحسابية وآلالات الهندسية ، وغاب عنها التخطيط الاجتماعي والبعد الإنساني والحضاري للحي ، في غفلة من المختص الاجتماعي الذي رضي أن ينزوي منشغلا بدقائق تخصصه الجزئية ، دونما نظرة شمولية بعيدة لأثره الاجتماعي فيمن حوله من مبان وشوارع ومدن وكذلك كل مستخدم لها أو مستفيد منها.
إن هذه المراكز التي تسمى الآن مراكز الأحياء والمناشط التي يتوقع أن تقدمها والأدوار الاجتماعية التي تؤديها للحي السكني ، كان مما يمارس إلى وقت قريب في حياة المجتمع السعودي ، قبل طفرته المادية وقبل سيطرة أهل مخططات الأراضي وتجارها على تشكيل المدينة السعودية ، نعم إن المتأمل لواقع القرية السعودية سابقا وبعض المدن الصغيرة يجدها في واقع الأمر مركزا اجتماعيا كبيرا دونما تخطيطا مسبق ، ولكنها الفطرة البشرية المجبولة على التعاون التكاملي ، والخلق الإسلامي الداعي إلى الترابط والتواد والتكافل أوجد مثل هذه المشاريع غير ذات النمط المؤسسي المنظم ، ومع غفلة أهل المدن الآن عن بعضهم البعض كان لزاما العمل على مأسسة هذه الجهود عبر ما يُسمى مراكز الأحياء ، فكانت هذه الفكرة نبتة تتراوح في مكانها إلى وقت قريب دونما باعث لها مشمر صابر على تبعاتها المادية والاجتماعية والإدارية ، التي قد يطول بها الطريق سلوكا في دهاليز بعض الأنظمة الإدارية المعيقة لها خوفا عليها حينا وخوفا منها حينا آخر.
إن مما يُبشر بالخير أن بوادر هذه المراكز قد بدأت ولله الحمد منذ فترة قصيرة وهي تنمو رويدا رويدا ، وأبشر أخي الدكتور خالد أن هناك مشروعا كبيرا تُعده الآن وزارة الشؤون الاجتماعية حول مراكز الأحياء ، بل قد بدأ بالفعل عبر عدد من المراكز في كل من الرياض والمنطقة الشرقية بعد أن سبقتها أخواتها في منطقة المدينة المنورة ثُمَّ منطقة مكة المكرمة.
فلقد بدأت لجان التنمية الاجتماعية بالتكون لهذا الغرض اقصد مراكز الأحياء ، وهي تدعو كل محب للخير وانتشاره في مجتمعه الى المشاركة فيها ومعها ، لنجاح هذا المشروع الاجتماعي الواعد الذي نحن بأمس الحاجة له الآن أكثر من أي وقت مضى ، ومن الجوانب المبهجة في هذا المشروع الذي بدأ وجود الدعم على أعلى مستوى في وزارة الشؤون الاجتماعية ، ومن ذلك دعم سعادة وكيل الوزارة للشؤون الاجتماعية ومعالي الوزير اللذين حمّلا قطاع التنمية الاجتماعية مسؤولية هذا البرنامج الحيوي في حياة المجتمعات ، فكان البدء بدراسة أكاديمية قام بها الأستاذ الدكتور سليمان العقيل من جامعة الملك سعود حول هذه المراكز ، وكيف يمكن أن تكون بالاستفادة من بعض النماذج الداخلية والخارجية ثم كان البدء الآن وسترى ثمارها قريبا - بإذن الله - .
إن مما يُميز نشوء المراكز بهذا الشكل وتحت مظلة التنمية الاجتماعية وفي أروقة لجان التنمية الاجتماعية ، هو اعتمادها على المشاركة الشعبية التطوعية من أوسع أبوابها ، المدعومة بالمساندة الحكومية عبر نظام لجان التنمية الاجتماعية وهو نظام يتيح لكل ساع للخير ناصح لمجتمعه للمشاركة معها وفيها ، ودعم ما يطرح من خلالها من مشاريع دعما ماديا ومعنويا ، كما أن من جوانبه الإيجابية الحرص المتواصل والحث المتوالي على شمول هذه المراكز بأنشطتها مختلف شرائح المجتمع وأجناسه ذكورا وإناثا شبابا وشيبا أطفالا وشيوخا ، عبر برامج اجتماعية تنفذ تباعا وبشكل متكامل أو منفرد لكل فئة مما ذكر.
كما أن هذه المراكز ستحاول ألا تقف عند حدود ما يرغبه ساكن الحي ومرتاده طالما هو في الإطار المقبول شرعا واجتماعا ونظاما ، بل ستعمل - بإذن الله - على تنفيذ ما يتوقعه ساكن الحي منها وما ينتظر رؤيته على أرض الواقع ، وهي مرحلة تنفيذية قد تبدو بعيدة للناظر ولكنها قريبة في التنفيذ.
ولا يخفى ان من مقومات نجاح هذا المشروع تكامل الجهود الحكومية ، من خلال المرونة في تخصيص بعض الأراضي لتكون مرافق اجتماعية على غرار المرافق الصحية والتعليمية ، إضافة إلى بعض المرونة الإدارية لدى وزارة التربية والتعليم من خلال الدعم المعنوي للمعلمين والمعلمات والمربين والمربيات الذين سيشاركون في إدارة هذه المراكز وتنفيذ برامجها ، سواء كان تعاونا تطوعيا أو جهدا ماليا مدفوع الثمن لقاء عمل محدد زمانا ومكانا ونوعا ، فمما لا شك فيه أن تعاون وزارة التربية والتعليم أمر لازم لإعطاء المواطن ثقة أكبر في مركز الحي ، طالما يشعر أن أبناءه وبناته بين أيدي مربين مؤهلين وهذا يولد تفاعلا اجتماعيا محمودا يعمل على تنامي أدوار هذه المراكز بشكل متواصل. ومن هنا فأنا أدعو من هذا المقال سكان كل حي يرى أهله أن لديهم الرغبة في تنشيط حيهم اجتماعيا ، المبادرة بطلب إنشاء مثل هذا المركز من أقرب مركز للتنمية الاجتماعية أو اقرب مركز للخدمة الاجتماعية أو اقرب مكتب للشؤون الاجتماعية للتعاون سويا المواطن والمسئول ، لتحقيق هذه الرغبة وإيجادها على أرض الواقع عيانا بيانا بعد استكمال الإجراءات الإدارية المطلوبة وهي يسيرة.
واختم مقالي بالقول : شكرا للدكتور خالد الشريدة الذي ترجم علمه النظري إلى تفعيل عملي ، عبر اقتراح مشاريع اجتماعية تنفع المجتمع وهي دعوة صادقة لكل مختص اجتماعي كي يشارك في تحريك الساكن الاجتماعي في جوانب المجتمع السعودي بكل نافع ، وبكل دافع للخير فيه ورافع للشر عنه. والله الموفق
د. عبد الله بن ناصر السدحان
الوكيل المساعد للتنمية الاجتماعية
بوزارة الشؤون الاجتماعية |