يثور التساؤل من حينٍ لآخر هل القيادة الإدارية علم أو فن، هل هي موهبة أو مكتسبة، هل هي إلهام أو وراثة، ففي الغرب تعددت النظريات في هذا الصدد فهناك من يرى بأنها فن يستشعر ويجرب لكون القياديين يتحملون آلام ومعاناة الناس وتطوير روح وأسباب العطاء، وهناك من يرى بأنه يمكن إطلاق مفهوم العلم على عناصر متعددة في القيادة الإدارية ذلك أن كثيراً من المقومات التي تؤدي إلى نجاح القائد الإداري يمكن اكتسابها بالتجربة والتعليم، فالقيادة الإدارية في نظر هؤلاء ليست أمراً أسطورياً أو شبحاً مخيفاً يستحيل فهمه من الأشخاص العاديين ذلك أنه عندما يمنح ذوو الطموح فرصة الممارسة العملية ويحصل لهم التوجيه فإنهم سيتمكنون من تطور مهاراتهم الإدارية، فالتعلم من كل مناسبة أو تجربة والتطوير المستمر والابتهاج لانتصار الآخرين والإحاطة بدقائق وإجراءات العمل والرؤى الواضحة واعمال مبدأ العدالة والمساواة واشراك المرؤوسين في اتخاذ القرارات وعدم الوقوف ضد نجاحهم من الممارسات الإيجابية التي تميز المديرين الناجحين.
وفي تاريخنا الإسلامي المجيد تبرز الممارسات الإيجابية في التعامل الإداري وبالذات من قِبل القيادات فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع بتعامله العديد من المبادئ الإدارية الفعّالة ومنها:
* حسن اختيار القياديين ومن السمات التي يتوخاها رسول الله عليه الصلاة والسلام في الرئيس الإداري أن يكون قوياً في الحق ولذلك امتنع عن توليه الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري رغم فضله ومكانته وذلك لما يتسم به من زيادة في العاطفة التي قد تؤدي إلى ضياع الحقوق، وذلك باعتبار أن الوظيفة في الإسلام تكليف وليست تشريفاً.
* الأخذ بمبدأ الشورى حيث كان صلى الله عليه وسلم يتشاور مع أصحابه ليس في الأمور السياسية والحربية فقط بل في الشئون الإدارية إنفاذا لقول الله عز وجل {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} وكان يحث أصحابه للعمل بهذا المبدأ فعندما بعث معاذ بن جبل وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهما لليمن أمرهما إذا اجتمعا أن يتطاوعا ولا يختلفا.
* الإشادة بفضل الآخرين فقد روى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في أمر الله عمر وأشدهم حياءً عثمان وأقضاهم علي وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وأفرضهم زيد بن ثابت وأقرؤهم أبي بن كعب ولكل قوم أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح وما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر) وهذا المبدأ معمول به في النظريات الإدارية الغربية كما سبق أن أشرنا.
* قرار الهجرة الذي اتخذه الرسول عليه الصلاة والسلام بحق أصحابه عندما أمرهم بالهجرة للحبشة وبحق نفسه وصاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه عندما هاجر للمدينة المنورة قد يتبادر للفهم تلقائياً بأنه يهدف إلى تلافي أذى قريش ولكن الحقيقة أن مغزى هذا القرار الحقيقي كما أجمع كثير من الباحثين هو توسيع دائرة الدعوة الإسلامية في كلٍ من الحبشة والمدينة المنورة وهو ما تحققت نتائجه بالفعل فقد كانت للهجرة أثر إيجابي على النجاشي وشعبه بل قد روى بأن النجاشي قد أسلم فضلاً عن مناصرته للمهاجرين ودينهم الجديد، كما أن الهجرة النبوية للمدينة المنورة فتحت آفاقاً جديدة للدعوة الإسلامية التي حظيت بمناصرة سكان المدينة ممثلين في الأوس والخزرج الذين عرفوا فيما بعد بالأنصار وهو الأمر الذي ترتب عليه قيام الدولة الإسلامية التي امتدت لتشمل ثلث مساحة الكرة الأرضية، فالهجرة إذاً قرار سياسي وإداري ناجح.
* تكريم المرأة وإيجاد دور لها في الحياة العامة وهو يعد من حسن الإدارة الإسلامية فقد كان صلى الله عليه وسلم يحسن معاملة النساء بما فيهن زوجاته أمهات المؤمنين اللاتي كان لهن دور كبير في الدعوة والرواية عنه عليه الصلاة والسلام بحكم قربهن منه، وقد بلغ تكريمه للمرأة بأن كان آخر وصاياه الاهتمام بها، فقد ساهمت المرأة المسلمة في الحروب فكن يخدمن الجرحى ويجهزن الطعام للمقاتلين.
هذا وقد استمرت الممارسات الإيجابية في مجال الإدارة الإسلامية في الصحابة الكرام، فمن تلك الممارسات في عهد أبي بكر رضي الله عنه:
* مناسبة مسمى رئيس الدولة الإسلامية فقد تم الاتفاق على مسمى (خليفة رسول) كلقب لأبي بكر لكي يكون بعيداً عن المسميات السائدة في ذلك الوقت للدول المجاورة التي تدل على معنى التسلط والفوقية كالقيصرية في بلاد الرومان والكسروية في بلاد الفرس.
* تأكيد مبدأ مسئولية رئيس الدولة أمام الأمة فبعد أن تولى أبو بكر الخلافة خطب في الناس قائلاً: (أيها الناس إني وليت عليكم ولست بخيركم فان رأيتموني على حق فأعينوني وإن أسأت فقوموني الصدق أمانة والكذب خيانة والضعيف فيكم قوي عندي حتى يرجع إليه حقه والقوي فيكم ضعيف عندي حتى اخذ الحق منه..).
* قيامه بتقسيم الدولة الإسلامية (الجزيرة العربية) إلى عدة ولايات وتعيين حاكم لكل ولاية كما أنه شكّل ما يعرف بالحكومة في الوقت الحاضر، فقد قام بتكليف عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالإشراف على شئون القضاء، كما كلف أبا عبيدة بن الجراح بالإشراف على الأمور المالية ونحو ذلك.
* تفرغه كرئيس للدولة للحكم فقد روى أن أبا بكر ذهب إلى السوق غداة توليه الخلافة لممارسة عمله في التجارة فطلب منه عمر رضي الله عنه وبعض الصحابة ترك عمله السابق والتفرغ للخلافة حيث فرض له راتباً من بيت المال.
أما الإدارة في عهد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي عرف بالعبقرية والذي قيل فيه (عمر أفضل من أن يخدع وأعقل من أن يُخدع) ومن ممارساته الإدارية الإيجابية:
* حسن اختياره للولاة والموظفين وكان يقول (إني أريد رجلاً إذا كان في القوم وليس أميرهم كان كأنه أميرهم وإذا كان أميرهم كان كأنه واحد منهم).
* مراقبته ومتابعته لولاته وموظفيه وكان يؤدب المخطئ منهم وكان يقول للناس (إني لم أبعث عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم ولا من أموالكم وإنما بعثتهم ليقيموا دينكم ويحجزوا بينكم فمن فعل به غير ذلك فليقل).
* قيامه رضي الله عنه بإنشاء الدواوين التي تماثل الوزارات في العصر الحاضر، وذلك من أجل رعاية شئون المسلمين، كما أنه كان أول من عيّن القضاة في الأقاليم والولايات بعد أن كان الوالي يجمع في يديه بين السلطتين التنفيذية والقضائية.
* حرصه على أن يكون القدوة الحسنة للأمة حيث كان ملتزماً بما يأمر به ومحاسباً لنفسه وأسرته بأكثر مما يحاسب ولاته وموظفيه، وفي هذا الإطار يقول فيه الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه (عففت فعفت رعيتك ولو رتعت لرتعوا).
إذاً فإنه إذا كانت النظريات الغربية تدعو إلى قياديين يتصفون بالحماسة والحيوية والجدية، فإن نظرية القيادة الإسلامية قد ذهبت أبعد من ذلك لكونها مسئولة أمام من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور إلا أن هذا لا يتعارض مع ضرورة الاستفادة من تجارب الآخرين، فصياغة رؤى للمستقبل والاستقامة على المبادئ والنزاهة في التعامل والتشاور والتجديد والتغيير صفات حديثة يلزم توفرها في القياديين، وهي ذات جذور في تاريخنا الإسلامي، فالتغيير والتجديد في مجال القيادات الإدارية نجده أمراً شائعاً في الغرب وربما يكون ذلك من أسباب تقدمهم لكونهم يرون أن القيادات الجديدة هي التي تؤدي إلى إنعاش وإحياء المؤسسات والمنظمات وذلك باعتبار أنه يفترض في التغيير أن يؤدي للانتقال من حالة الركود إلى حالة الحركة ومع ذلك فقد ورد هذا المبدأ في التشريع الإسلامي {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} وفي هذا الإطار فقد قيل بأن غزوة أحد تعتبر من مدارس التغيير فقد طالبت المسلمين بضرورة العمل والحركة والأخذ بسنن النصر وهي الصبر والتقوى والتوكل وعدم التهاون في ذلك، وذلك عندما اعتقد المسلمون قبل المعركة بأنهم منتصرون لا محالة باعتبار أنهم مسلمون فقد أدت هزيمة المسلمين في هذه المعركة إلى مرحلة جديدة من التغيير في المفاهيم التي تخدم مصلحة الدين والأمة.
|