لم يكن مهاتير محمد مجاملاً عندما وصف المملكة العربية السعودية بقوله: (إنها دولة تملك كل المقومات لتكون قوة عالمية وإن العالم الإسلامي بحاجة لتلك القوة).. كان الرجل يعلم ما يقول ويقول ما يعلم وهو باني ماليزيا الحديثة.. فهو يرى بعين الخبير ويتحدث بلسان الحكيم.. وقوله هذا تغلفه الدبلوماسية.. وإذا أردنا أن نورد القول بواقعية فإن المملكة هي (عملاق ولكن) بإمكان هذا العملاق أن يحفظ لنفسه مكاناً متميزاً في مقدمة الدول.
أما متى فإن التعليم هو المحور العام الذي تدور حوله باقي الأسباب.. ورغم أني لا أملك إحصائية مكتوبة أو أرقاماً محددة فإنني أجزم أن هناك إجماعاً على التعليم.
وكما ذكرت فإن هذا الرأي لا يتجاوز أن يكون انطباعاً عاماً عرفته ممن قدِّر لي الاتصال بهم.. وهو حكم ظني ولكني أطلقته تعميماً شأني في ذلك شأن باقي الأشخاص والمؤسسات الذين لا يملكون إحصائيات وأرقاماً.. ولكني أستندت في إطلاقه على ما تيسَّر لي من معلومات ومن قابلتهم من أشخاص وكلها تصب في خانة التعليم.
لقد فقد موضوع التعليم أهميته لكثرة ما تشدق به الخبير وغير الخبير.. وصار الموضوع رغم أهميته مثيراً للملل لأن الجميع يقول ولا يعي ما يقول.. وبدا الأمر وكأنه بحث عن شماعة نعلِّق عليها أخطاءنا.. وبدا أحياناً وكأنه موضوع ترفي نكمل به الأحاديث التلفزيونية في برامج فقدت الجدية وفقدت التسلية، ولكن هذا لم يمنع من حدوث بعض المحاولات الجادة لتداول المشكلة بموضوعية.
لقد أبدع الأمير خالد الفيصل في طرحه لمشكلة التعليم في فعاليات صيف أبها لهذا العام.. عندما قال إن العيب ليس في المنهج الدراسي المكتوب فقد ألَّفه واطلع عليه عدد من المتخصصين كل من مجاله، ولكن العيب يكمن في المنهج غير المكتوب الذي يجعل معلم الرياضيات يخرج عن إطار الأرقام ويتحدث في الفقه والتشريع والحديث، لقد أصبح الخروج على المنهج في هذه الحالة مزدوجاً: فهو خروج أولاً عن المادة المخصصة للدراسة وهو خروج ثانياً عن المنهج الأساسي المكتوب إلى مادة ألَّفها من خياله وغمسها في هواه.
إنني أتفق مع الأمير خالد الفيصل فيما أسماه بمشكلة المنهج الخفي، ولكن هذا المنهج الخفي يشكِّل جزءاً من كيان المشكلة وليس هو كل المشكلة، فالمعلم رغم أهميته الشديدة في العملية التعليمية.. ولكنه يظل جزءاً من المشكلة.. لأن المشكلة بحجمها تشكَّلت من المنهج والمعلم والمدرسة والوسائل التعليمية، فالمشكلة إذن ذات أبعاد مختلفة كماً وكيفاً ومنهجاً.
ولتبيان وجهة النظر هذه.. أضرب لكم مثالين.. الأول كمي محسوب لا يحتمل الجدل والثاني فكري ويحتمل كل الجدل.. والمهم أن نصل إلى الحقيقة.
في دراسة أعدها مكتب التربية العربي لدول الخليج.. ينبِّه إلى مخاطر النزعة اللفظية التلقينية في التربية الخليجية.. كما ينبِّه إلى سيطرة المواد التراثية على مناهج التربية.. حيث أكد أن المناهج الخليجية تكرس تقريباً (40.992) حصة دراسية للمواد التراثية (دين، لغة، تاريخ) في حين لم تكرس لتدريس العلوم سوى (19.550) حصة.. وذلك خلال العشرة الأعوام الأولى من التعليم العام (انتهى).
دراسة مكتب التربية تشير إلى مشكلة رئيسية تتمثَّل في تخصيص وقت كبير لدراسة علوم نظرية تراثية تخاطب الوجدان أكثر مما تخاطب الحياة.. أما المشكلة الأخرى فهي أنه رغم الكم الكبير من حصص الدروس اللفظية اللغوية التراثية في مناهج التعليم العربية إلا أنها لم تثمر عن تفوق في تلك المواد.. بل إن النتاج الحاصل هو في مجمله ضعيف والدليل الضعف العام لدى كافة الطلبة العرب في الخط والضعف في الإملاء والضعف في القراءة.. بل إن الصفة التي وصم بها العرب في العصر الحديث هي أنهم أمة لا تقرأ.. أما الضعف في النحو فقد تحول إلى حالة سائدة.. والشذوذ هو أن تجد من يدرك قواعد النحو وينتهجه ويوصم من يفعل ذلك بالتقعر والتنطع.. وهذا مثال صارخ لقلب المفاهيم.. وهي مشكلة أخرى ليس هذا مجال تداولها.
دراسة مكتب التربية طرحت المثال الرقمي الذي لا يحتمل الجدل في وجود مشكلة، أما المثال الثاني فهو فكري نظري بلا أرقام يقرر واقعاً نلمسه دون أن نحسبه بالأرقام والإحصاءات.. فمن المتفق عليه أن تنوع مصادر الثقافة والمعرفة.. مظهر صحي وإضافة عقلية هامة لأي مجتمع.. فمن خلالها يتمكَّن العقل من عقد المقارنة ومقادحة الفكر وتوسيع التجربة.. لذلك فإني (وهذا رأي انطباعي آخر) أرى أن الاستمرار في قرار منع السعوديين من تعليم أبنائهم في المدارس الأجنبية في المملكة هو قرار غير صائب.. نعم إن الاجتهاد الأول الذي بني عليه قرار المنع كان مصدره الخوف من تلوث أفكار أبنائنا ومن ثم ابتعادهم عن تقاليدنا وربما ديننا.. لكن التجربة علمتنا وبشكل واضح أن هذا الخوف ليس في مكانه.. ذلك أن تجربة المملكة العظيمة خلال مرحلة السبعينات الميلادية حينما ابتعثت عشرات الآلاف من الطلبة السعوديين إلى خارج المملكة.. كانت النتيجة رائعة فما الذي يخيفنا إذن في أن نسمح لمن يرغب في تعليم ابنه في مدرسة أجنبية؟ وإذا علمنا أن عدد الطلبة الذين يبدأون الدراسة في المملكة كل عام قرابة نصف مليون تلميذ.. وإذا علمنا أن العدد المتوقع للطلبة السعوديين الراغبين في الدراسة في المدارس الأجنبية لا يتجاوز الألف.. فإننا إذن نتكلم عن نسبة متناهية الصغر تحتمل التجربة.. رغم أن تجربة الابتعاث أثبتت بما لا يدع مجالاً لشك أنه لا خوف على أبنائنا.
كتب محمد إقبال قبل خمسين عاماً.. أن طريق معرفة الحق في الفلسفات والثقافات وذكر غيرها أن ننظر إلى نموذج الإنسان الذي أنتجته هذه الثقافة أو تلك.
هذا الكلام يبدو لي مقنعاً.. فهل (النموذج العربي) خطأ في الاجتهاد أم خطأ في المنهج.. ليتنا نجد الإجابة على هذا السؤال.
|