يستقبل الشعب السعودي ذكرى اليوم الوطني المصادف لليوم الأول من الميزان.. وذلك بالفرحة والأمل، الفرحة بحلول المناسبة من جديد بكل ما تنطوي عليه من تأريخ تليد وقصة كفاح مجيد، والأمل بمستقبل واعد أكثر إشراقاً وتميزاً وعطاءً.
كذلك فإنه إذا كان الشيء بالشيء يذكر.. فإن من المتوجب أن نكون على صلة وثيقة بالثوابت والجذور والبدايات وما شهدتْهُ من تطورات نوعية؛ لنستذكر ما كنا فيه وما تدرَّجنا إليه وما أحرزناه على درب المعاصرة بإقامة الدولة السعودية الحديثة.
لا شك أن الفضل في ذلك لله سبحانه وتعالى، ثم للدور الكبير الذي اضطلع به الراحل العظيم المؤسِّس جلالة الملك عبد العزيز، الذي وضع روحه في كفِّه مضحياً بكل غالٍ ونفيس من أجل توحيد البلاد تحت راية لاإله إلا الله محمد رسول الله.. فأقام هذا الصرح الكبير المملكة العربية السعودية التي تضمنا بكل الحب والاحترام والتقدير إخوةً أعزاء.. ودستورها كتاب الله القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية المطهَّرة وما وُرِثَ عن السلف الصالح، وتلك مصادر ما تستمده من تشريعات.. ما أحال الحياة القبلية التي كانت تنزع إلى الغلظة والتشدُّد والاقتتال فيما بينها لأقل الأسباب.. فعمل - رحمه الله - جهده رغم ضعف الإمكانات حينها على إشاعة العلم الشرعي والتوطين ما أدَّى إلى التأسيس لحياة حضرية آمنة ومستقرة وتكافؤ فرص مع الأخذ بالأسباب والالتزام المطلق بالعقيدة الإسلامية في إطارٍ من الوسطية والاعتدال وبدون إفراط أو تفريط لمصلحة الفرد والمجتمع ككل الذي يحب لغيره ما يحب لنفسه، ويحترم الآخرين ويبذل ما في وسعه للتعاون الإيجابي البنَّاء وفق ما توجِّه به العقيدة الإسلامية السمحة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}، والتعارف لا يتحقق على الوجه الخير إن لم يعزز مقتضى الصالح العالم.
واستناداً إلى هذا التوازن لذلك فإن من الطبيعي أن يسمو شأن هذه الدولة الفتية على الصُّعُد الحيوية كافة، وذلك بتوفيق الحق تبارك وتعالى، ثم بفضل الجهود الطيبة لولاة الأمر الذين يسعون حثيثاً لمواكبة التقدم الذي يسود العالم، مع المحافظة على الهوية المميزة، وذلك هو التوجه الرشيد الذي يتوارثه الخلف عن السلف للوفاء به، بما يعني أن مقدرات البلاد في أيدٍ أمينة وقوية وشجاعة، لا يأخذها في تحكيم شرع الله وقولة الحق لومة لائم.. لأن الحق أحق أن يُتَّبع.
أما المتطرفون الإرهابيون الذين يحملون الأفكار المنحرفة، والذين يسعون في الأرض فساداً ويقولون زوراً وبهتاناً باسم الإسلام الذي هو منهم براء، فلا مكان لهم في هذا المجتمع الخيِّر.. وعلى الإرهاب ومَنْ يأتمر به أن يرحل بلا رجعة إلى الكهوف والأدغال؛ حيث تكمن البؤر الشيطانية المتردية في الجحيم. وعلى كل حال فالعاقل مَن اتَّعظ بغيره، والأحمق مَن اتَّعظ به غيره.
وقد حذَّر الملك عبد العزيز - رحمه الله - منذ وقت مبكر من أمثال هذه الفتنة؛ حيث قال: (لقد وجبتْ عليَّ النصيحة أولاً للمسلمين كافة، وثانياً لمَنْ ولاَّنا سبحانه وتعالى أمره، فصار من الواجب علينا أن ننصح جميع المسلمين بأن نرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونعتصم بحبل الله جميعاً، ولا نتفرَّق فيأخذنا الشيطان إلى طرف الضلال). ذلك ما عبَّر عنه المؤسس بكل إخلاص ووضوح لا لبس فيه.
وفي هذا السياق، فإن خادم الحرمين الملك فهد بن عبد العزيز يبذل قصارى جهده لإحكام التواصل مع الجذور، ولذلك نجده دائماً وأبداً يؤكِّد على مسألة الالتزام بالثوابت، ولعل خير مؤشر على ذلك ما قاله، وفقه الله: (إن المملكة العربية السعودية وهي تعتزُّ بتطبيقها الكامل لشريعة الله في الأرض، وتواصل جهودها في سبيل غرس القيم الإيمانية الصادقة في جميع مناحي الحياة، لتؤكِّد أن الإسلام لم ولن يكون في يوم من الأيام دين الصراع والصدام والعنف والتطرف، وإن وجود خلل في بعض المجتمعات لا يبرِّر استخدام القوة والتدمير، والتجاوز على كل الحقوق، وتحكيم شريعة الغاب، كما أنه لا يبرِّر تغذية الأحقاد، وتمزيق الروابط، ونسف المكتسبات، وتضخيم التناقضات، وإلغاء سلطة الدولة، والتعدي على هيبتها، والمساس بأمن الوطن والمواطن).
كما نوَّه سمو ولي العهد - حفظه الله - في هذا الشأن بعزم المواطن الشريف ومواقفه الوطنية في قول سموه: (ومن العزم عزم المواطن الشريف الذي تتجلَّى مواقفه الوطنية بالانتماء والولاء لربِّه ثم للوطن)، وقال سموه: (لقد قامت دولتنا الرشيدة على إعلاء كلمة التوحيد خفَّاقةً في كل فؤاد وفوق كل هامة، مدركةً أن وحدة هذا الوطن لم تأتِ من فراغ، بل جاءت بكفاح الرجال الشرفاء خلف قائدهم المؤسِّس الملك عبد العزيز، رحمهم الله جميعاً).
وبعد.. فهذا قليل من كثير مما رغبتُ أن أعرض له؛ لأُسهم إلى جانب إخواني الأعزاء الذين يخصُّون مناسبة اليوم الوطني، كلٌّ في حقل اختصاصه، بما يقتضيه واجب الانتماء الوطني للإشادة برموزه وللتعبير عن الحب والوفاء والولاء.. وهي كذلك وقفة تأمُّل لتقويم مكتسباتنا وإنجازاتنا، ولإضافة ما نطمح إليه للمضيِّ قدماً على درب الصلاح والإصلاح الذي يعكف على إنجازه الملك المفدَّى وسمو ولي عهده الأمين وسمو النائب الثاني، الذين نذروا أنفسهم ليكونوا دوماً في خدمة الإسلام والمسلمين، ولتحقيق التقدم المنشود في المدينة والقرية على حدٍّ سواء في ربوع المملكة من أقصاها إلى أقصاها.
فالله أسأل أن يوفِّق الجميع لكل ما يحبه ويرضاه.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
(*) وزير الثقافة والإعلام |