هاشم عبده هاشم.. أحد الأدباء الشباب القلائل الذين يتمتعون بعبارة ذات خلفيات عميقة.. لا يستطيع القارئ فهمها للوهلة الأولى.. لكنه.. وعندما يتمكن من الغور في أعماقها.. يكتشف دنيا جديدة، وأفكاراً شابة ومسؤولة.. وفي هذا الحوار.. نتعرف عن كثب.. على هاشم الأديب.. والصحفي.. والإنسان
* السؤال التقليدي.. من هو هاشم عبده هاشم؟
- إنسان (!) ولكنني لا أريد أن أكون (محارة) نادرة يتشوق إلى رؤيتها الصياد.. ويغرق في أحلامه الواسعة، ويفرط في آماله.. لئلا يفاجأ في النهاية.. بأنه يقف مذهولاً أمام تجويفة فارغة إلا من أوهامه.. (!)
* أريد أن أضيف يا سيدي:
وأين أنت:
- إن هذا يعطني القدرة على الارتحال أكثر فأكثر.. لأواجه في النهاية ذاتاً شبعت بالغربة.. ولم يعد في مقدورها أن (توغل) في السفر.. أو التهويم (!).
شيء خطير أن تظن أنني - أحبذ - أويقات التوقف، والأخطر أن تحملني فوق ما أستطيع بأن تطالبني باستمراره لا أقوى على احتمالها ركضاً.. ولهاثاً.. فقد أختنق في النهاية قبل أن أصل! إلى النهاية.. ان النهايات - يا عزيزي - حكم قاس.. وانتحار بطيء نمارسه بحق، وانتحار بطيء نمارسه بحق (وجودنا) ليس المهم أن يكون هذا الوجود (مرئياً) له كتلة ويشغل فراغاً.. وإنما المهم أن يكون (أثراً) يدركه (الآخرون) بعمق الرؤية فقط.. إذ ما أكثر ما نفتح عيوننا.. لنرى أشياء.. رآها الناس بسهولة.. ومع ذلك لا نكاد نصدق أنفسنا.. حين لا نرى الفارق بيننا وبينهم أنهم يرون فقط.. أما نحن فنصر على أن ندرك الرؤية أيها العزيز.. في موقعي هذا هي المسافة التي تفصلني الآن عن كل (الأحياء).. هي (البعد) الذي يبشر به الغد على نحو (مدرك)! إذ ما قيمة أن نكون شيئاً.. ثم لا تكون (الجدوى) هي النتيجة الحتمية لهذه العملية الحسابية الذكية؟! إن كل شيء في هذه الحياة يشغل حيزاً.. وما شغل حيزاً يمثل في رأيي وجوداً.. وأي وجود في الدنيا يعني القيمة! فالصفر (مثلاً) يمثل قيمة.. لا أقصد بالتأكيد موضع هذا (الصفر) على طريقة (الرياضيين).. وإنما أقصد أن حجمه الطبيعي حقيقة (مرئية) والأكثر من هذا أن تكون نقطة انطلاق في حياتنا..
ومن هنا.. فأنا لا أستهين بجميع الأشياء! أصر على الأشياء هذه..!
* كيف يفكر هاشم.. وبماذا يفكر؟
- أكره أن أعمق في إحساسي جميع المعاني الرتيبة.. وبقدر ما أشعر أن ذهنيتي قد تحررت من العملية الحسابية البليدة (1 + 1= 2) بقدر ما أشعر بأنني أعيش حياة كاملة.. إذ ما أشد مصاب الإنسان حين يتحول إلى (كتلة) تتحرك باكية وتمارس العيش خضوعاً للعادة..
وفي رأيي (المأساة الحقيقية) التي يعاني منها (إنسان العصر) هي (الانضباط) على طريقة (السلوكيين).. والتقرير بأسلوب البلاغيين أو النتيجة الحتمية عند الكيمائيين.
ولو عاش الإنسان حياته على طريقة الفرض.. لوجد أمامه (عوالم جديدة) تتكشف كلما أسلم تفكيره للانطلاق.. وسبح في محاولاته المتكررة إن هذا ليس تجديفاً إنه ممارسة (ذاتية شجاعة) لحقوقنا الطبيعية.
شيء من هذا يحكم تفكيري.. ولست أرضى أن تؤخذ كلمة (يحكم) هذه على أنها اضطرار وتكييف.. بل إنني أرفض أن تفسر على أن مصائرنا مرهونة بظروف زمنية.. ومكانية معينة.
ولا أعتقد أن بإمكاني أن أسترخي أكثر.. لتجيء حقيقة ما أفكر فيه.. بهذه الصورة الساذجة من التعبير! إنني أفكر في مسائل ذات علاقة بوحدة الأشياء.. ومضامينها ولا أستطيع أن أقول أكثر..
* اللقاء مع الصحافة والأدب.. هل كان صدفة.. أم إن له بداية محددة الجذور؟
- لم أشعر في يوم من الأيام أنني أديب.. وما كنت لأسمح لنفسي بأن تقعد كرسي الأدب.. ولكنني لا أخفي عليك أنني أشعر في بعض الأحيان أن لدي استعداداً يمكن أن يكون طيباً في مجال الصحافة.. دعك من التجربة.. فإنها رحلة مجهدة.. لذهن مكدود.. في صحراء قاحلة.. لا ينتظر بارقة أمل قادمة (!) إنني لا أؤمن بالنتائج قدر إيماني بصلاحية تربة الأشياء أساساً.. إذ كيف تنتظر من برق الخلب.. مطراً..! عفواً.. إن كنت عنيفاً في بلورة مفهومي عن هذا الأمر.
أما كيف بدأت وكيف أريد لي أن أحرث في أرض مجهولة.. فإن ذلك يرجع إلى عدة سنوات.. حين وجدت ولأول مرة.. أن بإمكاني أن أكره.. وأحب وأشقى.. وأسعد (معاً).. كنت حينذاك أبحث عن (نفسي) فوجدتني أقرأ العالم بأذني وأعشقه بحسي وأحترق فيه بمشاعري وأنصهر في مصائر أحيائه انصهاراً.. ويومها لم أعد أقرأ الكتاب فقط.. وأمسك بالقلم لأعيد كتابة ما قرأت.. وإنما لأهرب بعيداً.. وكأن (تفجرات عميقة) قد وقعت فجأة في أعماقي ولكنني.. لم أعد قادراً الآن على تجديد (مسيرتي) بمثل هذا الانفتاح لسبب واحد هو أن غرفتي تقع في ظهر الشمس.
ليس المعمول على التجربة وإنما المهم أن تفلح هذه التجربة في نفس مليئة بالخيرات، عامرة بالعطاء ودائماً فإن (الثقافة) تمثل العطاء.. بنفس النسبة التي يشكلها تقبل (الإنسان) واستعداده فقد تشكل بالنسبة لإنسان (ما) ثراءً حسياً عظيماً.. وقد تترك في ذات أخرى (تفجيراً) عنيفاً.. يظل صاحبه يبحث عن التوقيت المناسب.. ليطلق شحناته بالشكل وبالصورة اللذين يكفلان (ردود الفعل الإيجابية).. وقد تعني بالنسبة لإنسان آخر نوعاً من الترسبات لا أقل!!
* ما هو دور الأدب في المرحلة الراهنة؟
- أنت تسأل يا عزيزي عن دور الأدب في المرحلة الراهنة! وأنا أبحث عن (الأثر الرجعي) للأبعاد العظيمة.. لأفق لا يعرف المدى.. ولا يعترف بالمحدودية.. وبين ما تسأل عنه أنت.. وبين ما أريده أنا مسافة أخاف أن أقول إنها (ميئسة).. ولكنني أعتقد بأن رسالة (إنسان اليوم) في حد ذاتها أصبحت أكثر خطورة وتشعباً من أي وقت مضى.. ليس هذا خروجاً على السؤال وإنما هو استنتاج أولي أريد أن أصل من خلاله إلى حقيقة مهمة هي:
أن الدور الذي تفرض طبيعته المرحلة الحالية.. قد تحول من الأدب إلى العلوم، وأنت تعرف يا عزيزي أن كل التحولات التاريخية.. وحتى القديم منها.. قد وقع بفعل التقديم الطبيعي للإنسان في مجال المعارف.. ولا سيما العلوم منها.
حتى أن حياة الإنسان نفسها قد استحالت إلى محاولة كبرى.. وجغرافية جديدة.. مجدها الطموح.. والقدرة.. والتطبيق.. والفرض.. صحيح أن الفرض، أسلوب علمي.. وأن التحول من مرحلة الإيمان بالحجم.. والتسليم بالكتلة.. إلى القناعة التامة (بالومضة) و(النسبية) يحتاج إلى وقت، غير أن الأكثر صحة هو أن مصائرنا وعلى كل المستويات السياسية والاقتصادية وحتى النفسية.. قد أصبحت جزءًا من إنجازنا في (مجال المعرفة).. أؤمن بهذا ولا أنكر في نفس الوقت أثر العلوم الإنسانية.. لكنه أثر محدود على أية حال في زمن يفكر.. أكثر من أن يتشنج!..
* رأيك في الأدب العربي.. والمحلي بشكل خاص على ضوء هذا المفهوم؟
- وما الذي تتوقع مني أن أقول إجابة على هذا السؤال! أكثر مما قلت في الإجابة السابقة يا عزيزي؟
- ما هو الفرع من العلوم الإنسانية الذي يشدك إليه؟ ولماذا؟
- تطلع الإنسان إلى المزيد من المعرفة.. يقوده إلى (البحث عن التفسير الإيجابي) لما يقع تحت أنظاره.. شريطة أن يكون بحثه.. حراثة في أرض بور.. وتشوقاً إلى (دنيا موجودة فعلاً).. إذ ما أكثر ما نحتجز عقولنا.. دون الوصول إلى الحقيقة بفعل (الأحكام المسبقة).. إن رؤوسنا عوالم مجهولة، يجب ألا نسمح للترسبات الخارجية باحتلالها.. إن علينا أن نغسلها كلما شعرنا بأثر لهذه (الحقائق) فيها.. إن ما يحول بين وصول الإنسان إلى ما يريد.. هو اجتراره أو انسياقه وراء أفكار مادية) تودع ذهنيته مجموعة أحكام يملكها غيرنا.. أين قدرتنا على التأمل والأخذ والعطاء وإمكاناتنا.. في تخير دروبنا المناسبة.. أيضاً؟ إن كل المعارف المؤدية إلى هذا العالم الواسع تشدني.
* أنت وكتاب ميكانيكا في جزيرة مهجورة.. كيف تتخلص من هذه الورطة؟
- ولم لا.. أعتبر هذا النوع من المعرفة (حرفاً جديداً) في عالم قراءاتي.. وومضة خاطفة تحرك جانباً (معرفياً) راكداً في أعماقي! إن التزاوج في المعارف مشكلة في عرف (الرغبة.. والمزاج) وأنا لا أعترف بالمزاج إلا عندما لا أكون قادراً على فعل شيء أفضل.. إن تسلمي به.. معناه الاعتراف.
* سؤال تقليدي أيضاً: زملاؤك: عبد الله جفري، د. عبد الله مناع، مشعل السديري، سباعي عثمان، علوي الصافي، وعبد الله الماجد ألم تكون مفاهيم خاصة عنهم؟
- أنت تسألني عن أصدقائي وأنا أؤمن بالمثل الدارج.. الزوج آخر من يعلم.. إننا جميعاً مسافرون في متاهة الألف عام، هل ترانا نعثر على الطريق من جديد.. بعضنا.. تصور أنه وصل منذ زمن والبعض الآخر.. أخذ يتلفت إلى الخلف بشعور مفاجئ وكأنه قد تجاوز الطريق منذ مدة والبعض الآخر.. يمضغه اليأس.. ويشعر بأن النهاية أكثر إيلاماً.. من التشوق في الوصول إليها والفارق بين الواحد والآخر هو (العمق) في المعاناة فما أكثر ما نعتقد أن الحياة قد تحولت في أحلامنا إلى تجارب كبيرة.. ما ذلك إلا تصور ينقص (النضج).. أتفهمني يا عزيزي.
* كيف ترى المستقبل الأدبي هنا؟
- أريد أن أجيب على هذا السؤال وما بعده.. بأن أرجوك بألا تطالب ببعث جديد للمأسوف على شبابه (سيزيف) فقد كان غبياً جداً.. في نظر إنسان اليوم.. لأنه أراد أن يزرع قصب السكر في سيبيريا على قدر ظروف العصر الماضي.
ما أعرفه هو أن المستقبل دائماً امتداد لمجموعة الظروف والمناخات التي يحياها الإنسان في (حاضره) فإذا استطعنا أن نضع لأدبنا الحالي.. حجماً.. ونتعرف له بقيمة محددة، فإن ذلك يعني في الواقع انتظار المزيد من التصاعد.. والقوة له في المستقبل، أقول هذا وأنا أعرف أن القيمة تنشأ عادة من (عطاء) الأثر.. وهذا يجعلنا نتساءل بشجاعة عن هذا العطاء؟
ولست أريد أن أشارك القائلين بأن أدبنا يمر بمرحلة ركود.. لأن ذلك في حد ذاته يعطي قيمة نسبية ويضع له حجماً وهذا أيضاً لا يعني إنكار أن لأدبنا حجماً معيناً وإنما يعني أن هذا الحجم ظل أقل قيمة ووزناً مع طبيعة الأشياء فأنت.. وأنا.. وكل قارئ لهذا الأدب تشعر بأنه (معزول) عن كل التيارات مفتقر إلى الكثير من المضامين الراهنة وكأنه يعاني من (كساح قديم) يصعب أن نجد له علاجاً.. مع اعتقادي الجازم أن هناك إمكانية كبيرة للخلاص من هذا المرض الذي يرتبط كثيراً بجذور أساسية بعضها نفسي وبعضها إرادي وبعضها تاريخي متأصل، وبعضها الآخر انضباطي أكثر من اللازم.
وما نعرفه جميعاً هو أن الأدب إطلالة على عوالم مجهولة.. وانفتاح أوسع لاستيعاب المزيد من (الومض الخارجي) وتعبير صادق عن كل التطلعات الإنسانية.. مع ما تتطلبه هذه الضرورات من تضحية.. أو متاعب أو قهر أيضاً وإلا فإن الأدب الذي يستمد مادته من (فكر) عاش في ظروف سبقتنا ونما في مناخات مختلفة عن المناخات المحيطة بنا هو أدب هارب يتلمس السبل الخلفية لئلا يتورط في مواجهة حقائق الحياة.. واندفاعاتها.
ثم إن الأدب في اعتقادي يكره هذه الإقليمية الضيقة.. لأن الفكر لم يكن في يوم من الأيام (متنكراً) للوحدة الكونية، قاصراً على المعالجات الذاتية، محصوراً في قوالب وبيئات ضيقة.
الأدب في نظري أصبح إنساني المضمون يكره الحجر ولا يعترف بالإلزام ومع الأسف الشديد فإنه على الرغم من وجود الإمكانية الكبيرة لأن نعطي أدباً متحركاً يخدم واقعنا.. ويتجاوزه إلى تناول قضايا الإنسان في كل مكان مع جود الإمكانية إلا أن أدبنا بمعزل عن عالمية الفكرة والشعور بمعنى أنه أدب اجترار وليس أدب قضايا في وقت تنشط فيه آداب الدنيا للتأثير على مسيرة الكثير من الأمم، استقطاباً أو تنفيراً.. مشكلة بهذا النوع من الإيجابية فعاليات خطيرة تمثل الكثير من (التأثير) على واقع هذا الإنسان! والأدب الذي لا يصنع تحولاً.. ولا يساعد على الدفع أماماً.. ليس بأدب على الإطلاق!
صحيح أن (العلوم) قد طغت على الأدب في عصر أخضعته ظروفه الاقتصادية والسياسية.. لواقع لا يحترم القول بقدر احترامه للحركة والتأثير، غير أن هذا لا يمنع إطلاقاً إلا من زاوية المفاضلة بين الاثنين أن ندرك آثاره في مجال التكييف الفكري، والاستعمار العقائدي إن جاز أن أعتبر الفكرة ذات أثر آسر للمجتمعات المتخلفة.. فأين نحن من كل هذا؟
* أنت متهم بأنك غامض وتتفلسف.. كيف تدافع عن نفسك؟
- أريد في البداية تفسيراً لمعنى الغموض الذي اعتبرته - يا صديقي - تهمة؟
- هل المقصود به غموض الفكرة.. أو غموض العرض أو غموض الرؤية (!)
كررت كلمة غموض هذه وضغطت عليها لأتبين طبيعة ما تتركه في نفسي مثل هذه العبارات.. أو على الأصح تجده فيها.
الغموض يا عزيزي، ليس هو المرادف الطبيعي للهرب من الحقيقة كما يحلو للبعض أن يسميه.. وإنما هو في نظري انعكاس لبعض زوايا النفس وبالقدر الذي تكون حواشي النفس هذه مظلمة بالقدر الذي يجيء التعبير عنها داكناً وما أكثر ما يختلف تأثير الجراح على النفوس على اختلافها أضيف إلى هذا أنه كلما كان (الإنسان) مفرطاً في الحساسة كلما كانت شفافيته هذه سبباً في التقاط الومض بسرعة شديدة وبعملية كيميائية تتم في الداخل تأتينا الصورة الخارجية.. في النهاية..
قد تقول: وما دخل هذه الترسبات في تعميق الأثر لدى الإنسان بأقل الأمور فعالية فلا يجيء الأسلوب بسيطاً.. وأجيب بأن القدرة على الاستيعاب تختلف بين إنسان وآخر فليس كل إنسان يفكر في ظروفه المحيطة مثل أي إنسان آخر يعيش التجربة على أوسع مدى يئن لكل الجراحات.. سواء ما وقع منها على جسده أو ما حل بأجساد الآخرين.
أظنك الآن معي في أن الغموض حالة وليس أسلوباً ومناخ وليس ظرفاً وبذلك تعذرني إن عجزت عن الإفصاح على الدوام.
|