لم يكن المال في يوم ما يستحق التسول مهما كان مستوى الحاجة ومهما كانت درجة العجز تبقى هناك مساحة من كرامة الذات تأبى أن تنحني امام ما هو أدنى منها.. ولكن هناك قضايا في حياتنا تستحق التسول وطرق الأبواب والنبش في العقول، من تلك القضايا مصطلح (المثقف) فأنا في هذا المقال أتسول مثقفاً.. هل المثقف ذلك المتكلم المتقن لفن الكلام لغة واسلوباً وإقناعاً، الذكي النبيه المدقق في كل أزقة مجتمعه بلمعانها وبقذاراتها بحسنها وبسوئها.. بتحليقها في اعلى مراتب السمو العقلي والنفسي أو إغراقها في الوحل الفكري أو الشعوري؟
أم إنه ذلك العقل الموزون الهادىء الرزين المفكر المتأمل في كل مفردة قبل ان ينطقها هذا إذا نطقها على اعتبار أن عقله الظاهر وعقله الباطن يحثانه دائماً على الانطواء والانكفاء على عقله الذاتي وفكره الذاتي إما لأن المجتمع أقل منه وإما لأنه فاقد الأمل فيما بين يديه من معالم حياتية (مرفوضة في حين أن رفضها مسألة نسبية)؟
أم أنه ذلك الحذق (الفاهم) في جميع مناحي الحياة الثقافية التعِب الساهر المنظم لأدراج عقله الباني لحجرات قلبه المنكفىء على مكتبه يقرأ ويبحث ويكتب ويؤلف ويصدر كتباً؟
أم أنه ذلك المفكر العارف بأحوال الناس حتى أضناه التفكير في مراسم الحياة الاجتماعية والشخصية لدرجة احدوداب الظهر وبروز الوجنتين واسمرار البشرة ذلك الحامل الهم بخلاصة ثلاث كلمات المؤهل، المبادر، العاجز.
أم أنه مزيج من تلك الخيارات مجتمعة بمرارتها وحلاوتها، بعيوبها وحسناتها؛ وعندها يكون هذا المثقف من أولئك البشر الموسوعيين ليس في المعلوماتية فقط وإنما في الفكر، الشعور، والسلوك.
للكلمة بريقها وقد يكون حاملها نُصّب من قبل مجتمعه على قمة عرش هذا المفهوم ولكن إلى أي حد نجح هذا المثقف في أن يكون درجة في سلم يرتقي مجتمعه من عليها حتى يكون أكثر نضجاً وأكثر وعياً وأكثر تحضراً، بالتأكيد أن كلمة مجتمعه هنا أعني بها المجتمعات المصغرة أنا لست خيالية حتى أطالب المثقف بأن.. وأن.. وأن.. على مستوى منظومة اجتماعية كبيرة فيجب أن نؤمن بأن المثقف ليس نبياً مرسلاً بل هو إنسان عادي قد يحمل نفس الفكر الذي يحمله عشرة أشخاص في مجتمعه ولكن زاد عليهم بمؤهلات شخصية وأدوات معينة يتحتم وجودها لطرح هذا الفكر سواء نشر ظاهرة اجتماعية جديدة أو الغاء ظاهرة خاطئة أو تصحيح معوج أو...
وبالتالي فالتعريف المهني للمثقف.. أن يتكلم! في كل الأمانة ومع كل الناس وفي كل منابع عيون الثقافة وعليه يكون الدور الوحيد المناط بالمثقف أن يتكلم سواء مشافهة أو على ورق أو على شاشة. إذاً فالكلمة هي الأداة المطلقة في يد المثقف لأداء رسالته ثم إيصالها ثم فض مظروفها وجعل ما فيه ينبش في العقول ويستفزها.. ولذلك فالمثقف الحقيقي دائماً يرى أنه لو لم يكسب إلا قارئاً واحداً فقط، يترك بصماته على شخصية هذا القارىء سلوكاً وتحدثاً وفكراً لكفاه ذلك ومن هنا جاءت الأجيال الحالية من المثقفين ودخلت قلعة الثقافة وأصبحت من المقيمين فيها والمتلذذين بطيب أو شظف العيش فيها على أيدي أجيال متعاقبة، متباعدة، مختلفة من حملة الأقلام وأصحاب الكلمة. إذاً فالمثقف يحمل على عاتقه هم اختيار الكلمة ثم طريقة نطقها، شفافيتها، خلوها من التصنع، ومنطقيتها، وهو بذلك لا أبالغ إذا قلت أنه من أهم قنوات الاتصال بين الإنسان العادي وتكوين العقلية السليمة أو الناضجة أو الواعية أو الفذة لهذا الإنسان. إذاً هو بمثابة المحاور الذاتي بصوت عال جهوري جريء. وبذاك فهو مسؤول عن شيئين: الأول تصنيع جيل جديد من المثقفين ضمن نفس الحلقة او المنظومة الفكرية العالية للمثقف، والثاني البيئة التي يعيش ضمنها من أفراد وظواهر اجتماعية وهنا يتبادر السؤال مباشرة: هل لهذا المثقف نماذج في المجتمع السعودي؟ بالتأكيد نعم، حتى وإن قلت أو ندرت.
في إطار اجتماعي ما انتشرت ظاهرة اجتماعية خاطئة على سبيل المثال أن مجموعة من شباب ذلك الإطار الاجتماعي قرروا عدم مواصلة الدراسة الجامعية يستندون في ذلك إلى أنه ليس هناك وظائف وغيرها من المبررات التي لمعوها لأنفسهم حتى دفعتهم إلى ذلك القرار - في حين أن الدراسة الجامعية في حد ذاتها من أقوى أدوات صقل الشخصية - نحن هنا أمام ظاهرة اجتماعية بدأت باثنين وتنتهي بالعشرات. كيف يتمكن المثقف بالكلمة من اقتلاع جذور هذه الظاهرة مع ملاحظة أن قضايا هذا العصر بدرجة من الحساسية لا يمكن علاجها بالقوة أو بالقمع.. وهل المثقف لدينا متحمل لهذه المسؤولية حتى يحولها إلى نضال إما أن ينتصر فيه وإما أن ينهزم؟ وما هو شكل انتصاره أو هزيمته.. الانتصار مشروط بمزاجيتهم وليس صحة الفكر أو خطئه!! وهنا يكون مثقفاً بحق في قدرته وتمكنه من الانتصار الناتج عن اليقينية في المبدأ وبالتالي الاستعداد لكل شيء في سبيل الانتصار في هذا النضال، وإما أن يكون مهزوماً وهزيمته لم تجيء من خطأ فكرة ولكن من تفرده وتوحده وعجزه البائن في تحويل هذا التفرد إلى نظام مقنع على أرضية الواقع بشكل جماعي.
الازدواجية ما مقدار المساحة التي تحتلها من الفكر ومن الكلام ومن السلوك في مجتمعات المثقفين والمثقفات، أم أنهم منزهون عنها تماماً وبعيدة هي كل البعد عنهم، بصورة أخرى للسؤال إلى اي حد ديوان أو كتاب أو رواية فلان تنقل صورة صادقة صافية عن صاحبها لدرجة انطباق رقي الفكر في الكلمة المكتوبة على رقي السلوك لديه.. صدق الحياة الخاصة للمثقف، صدق الممارسات الشخصية، صدق الكلمة.. هي التي تحدد بالضبط عمق التأثير لدرجة إظهار كوامن النفس (نفس المتلقي) وخفاياها ومن ثم كسب انقيادها لفكره ومنطقه الذي نقلته كلمته.
|