Tuesday 21st September,200411681العددالثلاثاء 7 ,شعبان 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

ذيل التداعيات الدمشقية..! ذيل التداعيات الدمشقية..!
د. حسن بن فهد الهويمل

وتمتد التداعيات، تثيرها مشاهدات واعية، أو قراءات متقصية، أو أحاديث مجالس تؤزها الأحداث بكل أوجاعها. ومن حق أي متابع عبر أي مصدر من مصادر المعرفة أن يقول رأيه فيما يقرأ أو يسمع أو يشاهد، متى كان مقتدراً وذا فهم سليم. وتحفظنا على ذوي الأفهام الضحلة الذين يفسدون ولا يصلحون، ومع ذلك فلسنا عليهم بمسيطرين، وما نريد تهميشاً ولا إقصاءً، وما نقوله مسوغ في إزاء حقهم في التفكير والتعبير. ولولا تضارب الآراء لما انقدحت الحقيقة، ولقد ضاق المتنبي من ذوي الأفهام السقيمة، وأطلقها مثلاً يردده الناس:
(وكم من عائب قولاً صحيحاً .... وآفته من الفهم السقيم)
(ولكن تأخذ الآذان منه ذ ..... على قدر القريحة والعلوم)
وليست التجاوزات التي نضيق منها، ونضيق بها مرتهنة للفهم السقيم وحسب، ولكنها لون من التعنت والمجازفة وسبق الإصرار. يقترفها الخليون والمبتدئون وذوو المآرب وطلاب العاجلة، لا لشيء إلاّ للابتزاز أو للاستفزاز، وهو أسلوب المتعجلين للظهور أو النهمين للكسب، ولقد سئلت أكثر من مرة عمن يستعذبون الاستقطاب حول الذات، ويستمرئون اللجاجة والصخب، ويمارسون شد الانتباه بأيِّ أسلوب، ويتعمدون الحضور باجتراح القدح بالمتفق عليه من الأقوال والأفعال والأناسي، دونما حاجة قائمة أو استجابة ملحة، إلاّ ما هو معروف من كسب رخيص يتعجلون اجتناءه من كتب يؤلفونها أو مقالات يكتبونها لوسائل إعلامية تتقن لعبة الإثارة والاستقطاب. وليس بمستبعد أن يطرح البعض نفسه للتندُّر بثمن بخس، ولو خلت الحياة من هذه النوعيات لأُخذ الناس بجد صارم. ولقد سمى العرب مثل أولئك المضحكين بالحركات أو بالأقوال أو بالأزياء (أهل السماجات) ولسنا معهم في كل ما يذهبون إليه ولكننا نقدر رؤيتهم ونقبل بعض آرائهم والرجل السمج هو الذي يقترف شهرته عن طريق استفزاز الرأي العام، ويتعمد المخالفة لذاتها بلا برهان، ومع ذلك فإنه ليس بحصيف من يستسلم للخطأ اتقاء الرأي العام المتشكل على غير هدى، ومثله من يتعمد إثارته رغبة في الشهرة، وكم هو الفرق بين أدب السخرية وسماجة الأدب. والسخرية ظاهرة فنية، تقصّاها النقاد، وعرفت بها طائفة من الكُتّاب، وفي القرآن الكريم أسلوب ساخر، تقصاه الدارسون للإعجاز البياني.
وما كل من ثار عليه الرأي العام معدود من ذوي السماجات، وما كل من خفت روحه، ولطفت عبارته، ولذعت سخريته محسوب من أولئك المهرجين. ولو أخذنا بهذا المفهوم على إطلاقه، لكان أن عطَّلنا الاجتهاد والتجديد والإصلاح والتصحيح، وحلنا دون تعدد المذاهب والتيارات والإمتاع والمؤانسة، و(أدب السخرية) أدب يمتد مع الزمن، عرف به عمالقة الأدب في القديم والحديث، تجلّى ذلك في أدب (الجاحظ) وفي أدب (أبي حيان) في القديم، وتجلّى في أدب (المازني) و(مارون عبود) و(السعدني) وآخرين في الحاضر.
وفي المقابل نجد العلماء الجادين ذوي المواقف ك(العز بن عبدالسلام) و(ابن تيمية) ومن سمّاهم البعض متمردين لوجه الله. وتاريخ الفكر الإسلامي حافل بالعلماء والمفكرين الأفذاذ ممن نذروا أنفسهم لقضايا أمتهم، وكم تعرّض بعض العلماء والمفكرين للسجن أو المقاطعة بسبب آرائهم المخالفة للجمود والنمطية المتوارثة. وحكايات العامة في بغداد في القرن الرابع مضحكة مبكية فلقد لقي منها العلماء النصب، وقصة (الطبري) مشهورة حين أوصدوا عليه بابه وبنوه بالآجرّ. ومثل هؤلاء الأفذاذ من العلماء وإن اختلفنا مع بعضهم يختلفون عمن يتقن فن الدعاية والإعلان وتسويق الذات بمثل هذا الأسلوب غير الحضاري، بحيث يُكذَّب الصديقون. وتُنكر البراهين، وتُدنس المقدسات، وتنسف المسلمات. مع أن هذه الطائفة ليست على شيء من العلم، ولا على شيء من الهم، وليس الاجتهاد ولا الاختلاف الذي يتصف به أساطين العلم والفكر والأدب من هذا النوع، وليست السكونية ولا الأبوية ولا تهيب المغامرة المحسوبة مما يحمد. والذين تعقبوا المسلمات، وفندوا خطأها، وحملوا الكافة من الفاضل إلى الأفضل يعدون مجددين، وكم هو الفرق بين المجددين الذين بشّر بهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، والهدامين الذين يرفضون اليقينيات، وينهجون منهج الشك الديكارتي، والحرية المطلقة، والقلق المطلق. فما كنت لأعيب الاجتهاد من أهله وخاصته، ولا أمتعض من الاختلاف المعتبر، ولا أشفق من مواجهة المسلمات من عادات وتقاليد، ولكني ضد الخلط وفوضى الحواس. واستدعاء الثوابت واليقينيات والمسلمات والشخصيات باسم حرية التعبير والتفكير دخول في الفوضى. لقد كانت إلماماتي العجلى والمتأنية في كتابات (القصيمي) ومسترفديه مدعاة إلى استذكار عدد من المجازفين الذين لا يلوون على شيء مما يقولون، وما عندهم إلا الادعاء والتشبع والتجشؤ من فراغ. و(القصيمي) قدوة سيئة لهذه النوعية من الكتّاب. وجهابذة العلماء وكبار الشعراء وأساطين الفكر زاد لمن لا زاد له، وسلّم يرقى به القاعدون إلى سدة الأضواء، وسيظل العلماء الكبار والشعراء المفلقون مورداً لا تكدره الدلاء. واستدعاء (القصيمي) لشاعر ك (المتنبي) حلقة في هذه السلسلة الصدئة، غير أنه في هذا الاستدعاء يود ان يؤكد دعواه بأنّ (العرب ظاهرة صوتية)، وأنّ صوت المتنبي خير من يمثل هذه الظاهرة، غير أنه في غمرة الحقد نسي ما يريد تحقيقه، وذهبت به تخبيصاته إلى أمور أخرى، ليست من مقتضيات الحديث عن الظاهرة الصوتية. وتلك من أبرز سماته، فهو يخب ويضع في أمور ليست من متطلبات حديثه، وكثيراً ما يقع في التناقض، حتى لقد أدرك عليه المتقصون لفكره نقض الحجة في موضع والاحتجاج بها في موضع آخر، وذلك بعض ما أشار إليه صديقنا (أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري) في كتابه (لن تلحد) وكتيبه (ليلة في جاردن سيتي).
وإشكالية (القصيمي) أنه لا ينتمي إلى نحلة لها أشياعها وأتباعها، وهو بهذا يُعَدُّ من المتمردين لوجه الشيطان، ومن أصحاب مذهب (اللامنتمي). و(اللا انتماء) توصف بها إبداعات (نجيب محفوظ) وهو الذي مهّد له الطريق إلى (جائزة نوبل)، وهناك فرق بيِّن بين الاثنين، قد نعرض له حين نفرغ من الحقيقة (الدمشقية) و(الصنعانية) و(القاهرية)، والمتابع لفيوض (القصيمي) يجزم بأنه يخدم بهوسه واهتياجه وحقده خصوم الحضارات، فكل طائفة تتأذى منه في جانب، وتستفيد منه في جانب، فهو كجناحي الذباب، أحدهما داء والآخر دواء. وحين تقرؤه كوحدة دلالية، يتبين لك أنه يريد الخروج من كل شيء، والتصدي لكل شيء، وذلك سر نبذ الناس له، وسر حقده على الناس. ولقد مر في حياته الفكرية بثلاث مراحل في غاية التناقض، مرحلة (السلفية) ومرحلة (الليبرالية) ومرحلة (التمرد)، وهو عنيف في كل مراحله، فالذي يقرأ كتبه السلفية يدرك حدته وعنفوانه، تجد ذلك في (البروق النجدية) و(الثورة الوهابية) و(الإسلام والوثنية) وغيرها.
و(المتنبي) مضمار لزز تجري فيه الخيل الكرام وغير الكرام، وكل من أراد تجريب آلياته ومناهجه تخطى إلى مضاميره، لأن عالمه حافل بكل الاحتمالات، والاشتغال به على أيِّ شكل سبيل من سبل الحضور، غير أنّ الإطلاقات المعممة لا تغني ولا تقني. وقد يتقن البعض (البهلوة) فيجمع بين السيئتين:- الجهل والتعميم، وقد تتعمد وسائل الإعلام الإثارة للجذب والاستقطاب، ولا يهمها بعد هذا في أي واد هلكت القيم والمثمنات. على أن قضايا الفكر والدين والسياسة والأدب لا يجوز أن تكون سلماً للاشتهار. وجرجرتها عبر وسائل الإعلام ووسائط النشر إخلال بالبنية الفكرية للأمة، وتزييف لوعي الذين لا تعدو نظراتهم إلى تليد الفكر وطريفه. والمتابع لفيوض الإعلام المقروء والمسموع والمشاهد ينتابه الخوف من الخائضين في آيات الله دون علم. ولست أشك في أن مئات من المتحدثين عن العمالقة لا يريدون من وراء ذلك إلاّ أن يكون لهم ولو مفحص قطاة في مشاهد الفكر والأدب، وما عرف أولئك أنهم يبدون سوآتهم ويحرقون سمعتهم ويربكون الرأي العام ويحفزونه على الاحتقان دونما أي جدوى، والذين يخبرون العمالقة يعرفون مقاصد المتعالمين من المتعاملين، و(المتنبي) عرف ما هو عليه، وعرف أنّ ما ترك وراءه من شعر سيكون مجالاً للأخذ والرد، ولهذا قال:-
(أنام ملء جفوني عن شواردها .. ويسهر الخلق جراها ويختصموا)
ومع إعجابي به وبشعره إلاّ أنه يظل مشروعاً لكل رؤية، ومجالاً لكل دارس، وهو كما الكلأ يشترك الناس فيه، وليس من حق أحد أن يحتكره، ولا أن يذود الناس عن مراتعه، غير أن تعامل (القصيمي) ومن عول عليه واستلهم ضغائنه من (الحداثويين) أو من (شعراء) أمعنوا في هجائه أو من (كتّاب) أمعنوا في ازدرائه، لا يعد من ذلك النوع المضيف، فهو حشد من الأحكام المناقضة للواقع، وحشد من الكلمات البذيئة الساقطة التي لا يتداولها إلا السوقة، فالعلم له آدابه، والعلماء لهم ضوابطهم، والمسألة واضحة المعالم. وليس من المزعج ولا المخيف أن يكون (المتنبي) مادة حديث مرتجل، ولكن الجرأة تجاوزت (المتنبي) إلى غيره من القضايا والأناسي، وهي قضايا تُعَدُّ من الثوابت، و(المتنبي) مظنة القول ونقيضه، لأنه خلف شعراً له وعليه، يجد فيه المادح ما يبرر مدحه، ويجد فيه القادح ما يبرر مآخذه، ولكن في حدود المعقول. ومآخذنا على الذين ينفونه من كل المشاهد، وهم كثيرون، ولقد كانت لي جلسات حديث ممتع في (صنعاء) مع لفيف من المعجبين والناقمين، وتبين لي أن (المتنبي) شاغل الناس إلى يوم الدين. ومن تتاح له قراءة ما قاله (القصيمي) ومن تطفل على نفاياته، لا يمكن أن يسلّم لأحد منهم، ولا أن يجد مبرراً لما يقولون، و(المتنبي) لم يثبت أقدامه في مشاهد الأدب إلا الخصوم، ولكنهم خصوم شرفاء، حاولوا التماس إخفاقاته، وهي كثيرة، ولم يفتروا الكذب، ولم يكتفوا بالهجاء المقذع والسب المقيت، والمثير للناقمين ذلك الشيوع والحضور، فكل متحدث عن أي قضية لا يحلو حديثه حتى يستدعي بيتاً للمتنبي، يُجْمل فيه رويته، ويُجَمِّل فيه حديثه. فهو مصدر (الإجمال) و(التجميل)، وخصوم المتنبي يغمرهم طوفانه، وإن أووا إلى جبل الكراهية، ليعصمهم من الحضور الملح والشيوع والسيرورة، وظاهرة الحضور ضاق بها ذرعاً معاصروه، حتى لقد نسوا ما هم فيه من حزن المصاب، واغتموا من شيوع شعره ووروده على كل لسان.
للحديث صلة


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved