وأرجو أن يأذن لي معالي مدير الجامعة أن أخالفه في مقولته التي ساقها وهي: أن معظم أعضاء هيئة التدريس تم إعدادهم في الجامعات العالمية في أوربا وأمريكا الشمالية، ووفقاً لمعايير تلك الجامعات إلخ.. وهذا حديث شبه عائم أو قل غير دقيق، والدكتور أسامة طيب قديم في جامعته، وفي قدرته أن يقول إن نسبة المتميزين في الجامعة -كذا-، لأن هذا التحديد أرى أنه مهم.. ويظل السؤال يتردد، ولنقبل قدرات أساتذة الجامعة في -معظمهم-.. وأسأل: ألا يرى معاليه أن هذا المعظم أو الأكثرية، أصبح عندهم ما يشبه الإحباط فجمدوا وهذا شيء طبعي أن تخمد حماسة الطامحين حين يفقدون الأمل والتقدير، وكذلك حين تكثر أعباؤهم وأمامهم نظراؤهم ليس في الكفاءة، ولكن في نيل ما ينال المميز، ولو كان في جامعاتنا موازين تعني بتقدير العاملين الجادين، وتجميد غيرهم من غير المنتجين، لبرز الكفء وزاد عطاؤه وحماسته، ومادام يتساوى في التقدير الجاد والمقصر، فهذا يدفع إلى تراجع المتفوقين تفوقاً باهراً كما قال مدير الجامعة!
* ويقول مدير الجامعة إن حجب المكافأة لن يحل مشكلة القبول في الجامعات، وأذكر معاليه بالمثل السائر: (نواية ترفد شربة وقيل ترفد زير)، وهذا يعني أن التوفير المادي، لا أقول يحل المشكلة كلها، وإنما يعمل انفراجاً في التوسع النسبي للاحتياج الملح، وكذلك في ابتعاث المتميز من الطلبة إلى الخارج.. والذي يقرأ هذا الإطلاق من إجابات معالي مدير الجامعة يصدم، لأن أنصاف الحلول خير من لاشيء الذي يشبه الجمود.. ولعلي أقول للدكتور أسامة إن العمل المرهق هو العمل المفيد حقاً، كما قال الأستاذ الجامعي التونسي - منجي الشملي.. ولعلي أركز وأقول إن توفير احتياج سوق العمل عندنا من خريجي جامعاتنا شيء أساس، لا مراء فيه ولا مماراة، وإذا لم تستطع كياناتنا الجامعية تحقيق ذلك فهي مقصرة بل عاجزة، وأكبر الظن أن أحداً في مركز القيادة جاد وفاعل لايقبل على نفسه أن يوصم بالجمود وعدم القدرة، وهو يمثل مقولة المتنبي:-نقص القادرين على التمام-، والذي يغار على أدائه وما يراد منه لما يحتاج إليه، لن يجنح إلى معطيات هي أقرب إلى التعطيل منها إلى العمل، والحق يقول: {وَقُلِ اعْمَلُواْ }.. ونحن ندرك أن مستوى التعليم الراقي، هو عنوان نهضة أي أمة طامحة!
* أعود إلى القول- إن طلاب الثانوية من الجنسين، الذين يتطلعون إلى التعليم الجامعي، لا يوجد في الثانوية بعامة تنمية قدراتهم ومدهم بما يحتاجون من سبل تعبر بهم إلى صفوف الجامعة، وحين يضع الطالب قدميه على السلم الجامعي يفاجأ بأنه مطالب بما لم ينل ولم يلقن بشيء من ذلك لتهيئته، ولا أحد يستطيع أن يقول إن هذا من دور البيت، وهل المعايير الجامعية يمكن أن توفر للطالب الحالم بالجامعة، أم هو شيء مسكوت عنه؟
* يقول معاليه رداً على سؤال الصحيفة: (نعمل حالياً على إنشاء برامج بيئية) بالمشاركة بين أقسام وكليات (يكون لها سوق عمل، ومن ضمنها برامج لخريجي الأقسام الأدبية) إلخ.
* وأرجو أن يعذرني معاليه في القول إن مستوى أقسام أدبية في جامعته كما رأيت، لو قوموا لما ارتفع مستواهم عن مستوى خريجي (الإعدادية)، وهم سيوجهون إلى تعليم جيل أو أجيال، على حين أنهم (خاليو الوفاض). وأي سوق عمل يا دكتور يتقبل خريج جامعة مفلس لا يفقه شيئا في معلوماته العامة والدراسية.. وقد قابلت شرائح كبيرة منهم، فرأيتهم لايفقهون مما درسوا وتعلموا، إن كانوا قد تعلموا شيئا!
* وأنا لا أتهم الجامعة إلا في جانب واحد وهو، قبول خريجي ثانوية شبه أميين، لأن التعليم العام في أدنى درجاته أو أقل.. ولو كانت الجامعة أي جامعة، ودعونا في الآداب واللغة العربية، أقول لو أن جامعاتنا وقت قبول هؤلاء الذين رأيتهم في نهاية السنة الأخيرة، لو أقامت الجامعة امتحان قبول مقنناً شفاهياً وتحريرياً، لما قبلت المئات، ولذهبوا يبحثون عن مجالات أخر، أو رجعوا على وزارة التربية والتعليم، لأنها لم تمكنهم من تعليم ينهض بهم إلى اللحاق بالجامعة!
* أقول لمعالي الدكتور أسامة طيب، أعانك الله-، فإن الحديث ذو شجون وهموم، غير أن ذلك لا يمنع من العمل والمجاهدة، لأن النتائج التي أمامنا مخيفة جداً، ومع ذلك مازلنا نسدل الستور على مسيرتنا التعليمية،ونتحدث بالشيء الكثير عن الآمال والتفاؤل، غير أن الحال تدعو إلى القلق المفجع الذي ينتاب الغُيُر من الحراص على نجاح التعليم والارتقاء به، لا من خلال أحاديث تتبخر كجفاف الحبر على الورق، ولكن ينبغي أن يكون قلقاً يدفع بحس وتوقد إلى التغيير من أجل الإصلاح وأداء الأمانة التي تحملها الإنسان على وجهها، فحين تحيق الأخطار بأهم طموح الأمة، ويصبح الحديث همساً لا خير فيه، فإن النتائج مفجعة بحق.
والتعليم بعد الإيمان بالله، يأتي في الصدارة.. والأمة التي تتساهل وتتسامح في ذلك أمة خاملة مقصرة أشد التقصير، فهل نرضى بهذا الوصف، اللهم لا!
* ولعل سؤالا يبدر في ذهن إنسان متأمل أو يخطر على باله، وهو: لماذا تتأخر جامعاتنا، في حين نرى ونسمع تفوق جامعات أخرى، ولعله سؤال طبعي لاسيما في عصر الارتقاء الحضاري وسباق الأمم الراقية نحو حياة علمية وفكرية تجعلها في الصدارة، لأنها تتمتع بنصيب وافر من التفكير الجاد الذي يدفعها إلى الرقي والتفوق، على حين مازلنا نسمع في عالمنا العربي أننا أمة نامية.. ولعل سؤالاً مجدداً نراه أمامنا حين نسمع ترديد تلك الجملة، وهو إلى متى نضل في حقول النمو؟ ومتى ندرك أو يُدركنا الارتقاء الحضاري الحق!؟
* والذين يقوّمون الحياة وتطورها، وينظرون إلى شعوب في شرقنا وقارتنا، يرون أن أمماً كانت مستعمرة ومغلوبة على أمرها، وحين نالت حريتها، لم تنم وله تله، ولكنها جدت وعملت، لم تنظر إلى الوراء، وإنما نظرت إلى غد كله متغيرات وحياة متقدمة شامخة، فلم تركن إلى الخمول والآمال والأحلام، وإنما خططت لحياتها المستقبلية، يدفعها طموح يفضي إلى رؤى تنهض بها، ولم تكن تلك الدول غنية ولا ذات تاريخ باذخ ناهض، وإنما كان لسان حالها: (نكون أولا نكون).. ويمكن أن نضرب المثل باليابان، سنغافورة، تايلاند، أندونيسيا!
* والمثل يقول: البدء من البداية، ولم تكن بداياتنا طموحة، وربما فأخرنا أن عندنا من كتل الإسمنت العمراني ما يشبه ناطحات السحاب، وتوسعت تجارتنا، على حين أننا لسنا أكثر من مستوردين ومستهلكين، وفي البلاد أرصدة مالية عالية غير أنها غير موظفة، إلا أن بعضها في ممارسات: الاستيراد والبيع والشراء، حركة مازالت بدائية، لم ترق إلى مستوى النهضة الحياتية بحق، فلبثنا في مكاننا لا نريم!
* في تقديري أنه ينبغي أن نبدأ ونسير في درب صحيح لا يكتنفه وقوف أو جمود، وبالطبع فالحياة بعامة حلقات مترابطة، ومن ذلك التعليم العام والجامعي.. إلا أنني أقول إن التعليم الفاعل الذي يركن إليه، هو الذي يفضي إلى الرقي في جميع أبعاده، ولو كان تعليمنا عبر مسيرته التي تجاوزت نصف قرن، من خلال البعوث وقيام جامعاتنا ينمو إلى هدف البناء السامق والارتقاء، لما كنا اليوم أقل من اليابان وأندونيسيا وتايلاند وسنغافورة، صناعة! وها أنا كتبت ثلاث حلقات في زاويتي هذه تعليقات على حديث مدير جامعة الملك عبدالعزيز، وأريد في هذه الحلقة أن أركز على نقاط في تقديري أنها ستنهض بتعليمنا الجامعي والعالي، وهي من تجارب أمم سبقتنا فحققت ما تريد.. ولعل علة التعليم الجامعي عندنا أو علة العلل، رداءة التعليم العام، ولن يرتقي التعليم الجامعي مهما قلنا ومهما فعلنا إلا بإصلاح التعليم العام -النواة- والقاعدة التعليمية التحتية والأساس!
|