البسترة هي تعقيم الحليب عن طريق التسخين والتبريد، مرة برودة شديدة ومرة سخونة عالية، وبهذه الطريقة تموت كثير من الميكروبات ويحتفظ الحليب بخصائصه الغذائية الأساسية. على الأقل هذا ما أتذكره من هذه العملية، وحتى لو لم يكن هذا دقيقاً فهو كافٍ للتعبير عما أريد أن أقوله. فأنا لن أتكلم عن الحليب وإنما عن السياحة، فقد اعتدت أن أقضي إجازتي في البلاد الأوروبية وإذا قدر لي أن أزور مدينة عربية اضطر أعود مرة أخرى إلى أي مدينة أوروبية وأقضي فيها بعض الوقت حتى أنسى ما لاقيته في المدينة العربية، وهو نوع من البسترة. في هذا العام لم تسمح لي ظروفي أن أقوم بعملية البسترة حيث قضيت إجازتي كاملة في خط مستقيم بين بيروت ودمشق إلى أن بلغت درجة الاختناق، فأنا أحب اللحم لكن مهوب معقول لحم أربع وعشرين ساعة. أي مطعم تدخله مرة كباب ومرة أوصال ومرة كفتة ومرة ريش ومرة كستيليته ومرة كبة نية ومرة كبة محشية حتى أني بدأت أشك أن البيبسى والعصيرات لا تخلو من اللحم، ويا ليت الدعوى لحم فقط كان ممكن الواحد يتحمل لكن أكبر ما يزعل اللبناني إذا شلت الشحم، على طول يقول لك (شو هيدي بلا طعمه.. ما طيبة) إذا تحملت اللحم والشحم ردوا عليك بالتتن. راعي الدكان ينفخ في وجهك واللي وافق وراك في السرا ينفخ في علباك. مرة انحشرت مع خمسة أشخاص في تكسي سرفيس كلهم ولعوا سجائر في نفس الوقت. وإذا دخلت مطعم أول ما يعطعط في خياشيمك ريحة الأرجيلية. الشيء الغريب أن الواحد يولع الأرجيلية وإذا انطفأ الجمر ولع سيجارة ينتظر الجرسون يولع جمر جديد. لا يعترفون بإشارات المرور وتحس أن ضرب البوري نوع من الوطنية يؤجرون عليها. ومع هذا قرأت أن عدد السياح السعوديين في لبنان قد بلغ رقماً قياسياً هذا العام. لماذا يتركون الرياض الأنيقة المنظمة والفخمة ويذهبون إلى مدينة صغيرة مساحتها لا تتعدى مساحة العليا، مدينة فقيرة متدنية الخدمات يدفعون أضعاف ما يمكن أن يدفعوه في مطاعم فاخرة في بلادهم؟.
بالصدفة جلست في أحد مطاعم بيروت إلى جانب امرأة سعودية من سكان الرياض تقود فوجاً من الفتيات والأطفال والخدامات وسألتها وش الله حادكم يا أختي على قضاء إجازتكم في مدينة بيروت. يا أختي الرياض أجمل منها ألف مرة وتتمتع بخدمات لا تضاهيها حتى المدن الأوروبية. قالت وأنا أخوك لو أننا في الرياض كان ما تجرأت وسألتني هذا السؤال، كان ما تجرأت تحاكيني أصلاً. كان ما جلست حولي كأني مجروبة لين رحنا مطعم يحشرونا بين صنادق وبين قواطع. حنا فيذا ما نجي عشان الخدمات والأكل بلدنا أفضل بلد في الخدمات وبيوتنا فيها أفضل أكل في الدنيا. حنا جايين نشوف بعضنا نسلم على بعضنا نتعرف على بعضنا. فيذا وأنا أختك أطلع أنا وعيالي وبناتي ما أحتاج لهندي يوديني ويجيبني. فيذا لا رجال يؤذونا ولا أجهزة تشكك فينا وفي أخلاقنا. نص عيالتنا الكبيرة في بيروت، صرنا نتواعد كل سنة. حنا ما نعرف بيروت، حنا نجي عشان نشوف بعضنا، نحس أننا عائلة واحدة وأقارب. الإنسان يحتاج يتنفس وأنا أختك.
ثم تذكرات أن كل إنسان يبحث عما يفتقده، فهذه الأعداد المهولة من العائلات السعودية التي تجوب بيروت ودمشق والقاهرة وكوالالمبور وباريس ولندن وتنفق مليارات، لا بد أن هناك شيئا ما تبحث عنه. فكما قالت المرأة معظم هذه العائلات لا يعرفون أي شيء عن المدينة التي يقضون فيها إجازتهم. عندما التقي ببعض الأسر السعودية في لندن على سبيل المثال أحس أنهم لا يعرفون أي شيء عن لندن. لا تعني لهم مدينة لندن أي شيء. لا يعرفون حتى أبسط قواعد اللغة الإنجليزية. كل وقتهم يقضونه في شارع أو شارعين، رايحين جايين رايحين جايين، إنها سياحة في داخل الذات. إنّ السفر إلى الخارج بالنسبة للعائلة السعودية هو في الواقع سياحة داخلية.
فاكس 4702164
|