الحديث عن موضوع الصداقة بين البشر أمرٌ لا يملُّ منه سمعٌ، ولا يكِلُّ به بَصَر، وقد كتَبتُ عن هذا الموضوع أكثر من مرة، وسبَقَني إلى ذلك مَنْ سبقني مراتٍ ومراتٍ، ورغم ذلك يحْلُو الحديثُ فيه وعَنْهُ مرةً تلوَ أخرى!
**
لماذا؟ قد يكون السببُ أننا في عَصْر عَصي وعَصِيب معاً، اخْتلطتْ فيه كثيرٌ من المعايير والقيم، فلم يَعُد البعضُ منَّا قادراً على التَّمْييز بين صداقة (أصيلة) وأُخرى (مزيفة)، بين صَداقة (دائمة) وأُخْرى (موسمية)! وهناك نمطٌ من الصداقات تسيِّره إرهاصَاتُ (المصلحة)، يْبقى ما بقِيَتْ، فإذا انْقَضَى الأربُ ذابتُ الصداقة.. كما تذْوي النارُ إذا لامسَها الماء.. أو كما تذْبلُ الشَّمعةُ إذا مسَّها الريحُ.. يقول شاعرٌ في هذا المعنى:
صلَّى وصَامَ لأمرٍ كان يطلبُهُ
فلَّما قُضِيَ الأمرُ لا صَلَّى ولا صَامَ
**
إذاً، فالصداقةُ أنماط تتشَكَّل وسائل وغايات، كلمَّا زاد نصيبُ المجتمع المدني من النمو والتغيُّر تعدَّدتْ وتمدَّدتْ المصَالح والغَاياتُ في كلِّ الاتجاهات، ومن ثَمَّ باتَ التمييزُ بين هذه الأنماط أمراً عَسيراً إلاَّ لمَنْ أُوتِيَ حكمةً وبصيرةً وسداداً في الرأي. وقد يكون هذا النَّمط من الصداقة جَائزاً في التداول السياسي بين الأمم؛ حيث لا تُوجَد بين معظمها صَداقَاتٌ دائمة أو عدواتٌ ثابتة، بل مصالحُ تَتَذبْذب ذات اليمين وذات الشمال، قد يدوم بعضُها إلى حين، وقد يذْبلُ وينْحَرف مسَارُه، ومن ثَمَّ تَتشكَّل (الصداقة) بين هذه الدول في ضوء هذا وذاك، بمعنى أنها باقيةٌ ما بَقِيَت المصَالحُ، وهي بائدةٌ بِزَوَالِهَا!
**
* وبعد فإن ما يعنيني تحديداً في حديث اليوم ليسَ (صداقة الأمم)، بل الصداقة التي تربط إنساناً بآخر، ولذلك سأُكرِّسُ السطورَ التاليةَ للحديث عن هذا الموضوع، فأقول:
* إنَّ الصداقةَ بين البشَر (معدنٌ) أخلاقيٌّ متعدِّدُ الأوزان، تَتحَدَّد هُويَّتُه وقيمتُهُ بالكيفية التي (يُتداول) بها هذا (المعدن) بين إنسَان وآخر.
* فهي في موقفٍ ما (ذهبٌ خالص).. لا يأتيه الزيْفُ من بين يديه ولا من خلفه!
* وهي في موقف آخر (معدنٌ آخر)، تنشأ الصداقةُ في ظلِّه لغايةٍ معينة في زمنٍ معين، فإذا انْقضى الأربُ استسْلمت الصَّداقةُ لحمَّى الصَّدأ، وذابتْ داخل إعصَار الزمن والنسيَان!
**ومن هنا، يُمكن وصف مَنْ ينتمي إلى فصيلة (الذهب) أخلاقياً من الأصدقاء كما يلي:
* هو إنسانٌ تخصُّه بالجهْر عمَا يُسِرُّه فؤادُك، فلا يضيقُ بك، ولا بما تُسرُّ به!
* وهو إنسانٌ تفتح له أبوابَ قلبك فلا يُشْرك فيمَا تُسِرَّ به له أحداً أبداً.
* وهو إنسَانٌ لا يُؤْثركَ على نفْسِه، لكنه يُؤْثِرُكَ مع نفسه.. وكأنَّهُما قُدَّتا من مَعْدنٍ واحد في قالبٍ واحد!
* وهو إنسَانٌ يعاتبُكَ فلا يجْرحُك، أو يَئِدُ كِبْرياءَكَ.
* وينْصَحُك فيحَرْصُ أن تكونَ نصيحتُه أقرْبَ إلى حَيْثيَّات الموقف؛ حكمةً ودقَّةً واستيعاباً!
* وهو إنسانٌ يمدحُكَ فلا يغلو في مدحك؛ كيلا يحقن ذاتك بالغرور!
* وهو إلى جانب كرم جاهه جوادُ النفس، عفيفُ اللسان، طاهرُ القلب في غير غفلة أو غباء!
** وهو حَذِرُ الإرادة بلا تَردُّد، شُجَاعُ الرأي بلا تَهوُّر، يعرفُ متى يُقْدِمُ ومتى يُحْجِمُ، متى يقُولُ ومتى يصْمُتُ، متى يْحلمُ ومتَى يغضبُ. وإذا غضبَ كان عَادلاً وحليماً، وإذا رَضِيَ كان مع رضَاهُ وقُوراً!
** وهو إنسَانٌ تفْتقِدُهُ متىَ غاب، بل وتُشْفقُ على نفسك من غيابه، تسْتَبْطئُ الأيامَ والليالي ترقُّباً لعودته، فإذا آبَ إليكَ لم تملَّ له حضوراً.. وتَمنَّيْتَ ألاَّ يَغِيبَ عنك أبداً!
** والآن، لو شئتَ عزيزي القارئ أن (تُصنِّف) أصدقاءَك من أهل الأرض في ظلِّ الحيْثيَّات السابقة تُرى مَنْ منهم سيُضيءُ صُمُوداً أمام فتنةِ قياسِكَ؟ ومَنْ منهم سَيْخبُو تَراجُعاً أمام محنةِ رفْضِكَ، فلا يبقى منه إلاَّ (أشلاء) من ذكرى؟!
|