يختلف الكثير في واقع المصارعة الحرة؛ فيما إذا كان الجزء الأكبر منها حقيقة أم تمثيلاً، إلا أن هذا لا يمنع كونها تستقطب الكثير من المشاهدين الذين ينتظرونها على أحر من الجمر، وكاتب هذه السطور كان واحداً من أولئك؛ بل ربما كنت من أشدهم ترقباً وحماساً وانفعالاً إبان عقد الثمانينيات، وما زلت أذكر جيداً واحداً من مصارعي تلك الحقبة ذا بشرة سوداء، وقامة طويلة، وبنية جسمانية لامعة قوية، ورأس أصلع يتوهج صلابة وعناداً، إنه (سبيشال ديليفري جونز) الذي دخل المصارعة فجأة، واستطاع أن يستحوذ على إعجاب المشاهد في فترة وجيزة؛ إذ كان يتميز بضربة رأس عنيفة تُسقط خصمه أرضاً وتكون هي القاضية، ثم طوّر نفسه في إحدى مبارزاته القوية وتمكن من تثبيت خصمه بأسلوب جديد لم يتوقعه أحد ولم يتوقعه خصمه؛ إذ أبهر مشاهديه وهو يمسك بيد خصمه ويدفعه بقوة نحو الحبال، ثم يدور حول نفسه (من اليسار إلى اليمين لأنه أشول) ثلاث أو أربع مرات خاطفة، وما أن أعادت الحبال خصمه إليه حتى سدد إلى وجهه لكمة أسقطته على أرض الحلبة مستسلماً للتثبيت، واستمر (جونز) يجمع بين ضربات رأسه ولكمات يسراه لبعض الوقت، ثم شيئاً فشيئاً بدأ يستغني عن ضربات الرأس مكتفيا بلكمته تلك، إلى أن حان موعد لقائه مع خصمه اللدود الماكر (دون موراكو)، فأراد ألاّ يعتمد على ضربات رأسه مكتفياً بلكمته، إلا أن خصمه كان قد أدرك طريقته وتركه يدور حول نفسه مرة أو مرتين ثم فاجأه بلكمة قوية طرحته أرضاً وبسرعة مذهلة قام بتثبيته ليخرج منتصراً ويتركه مفترشاً أرض الحلبة وعيون مشاهديه تلاحق تأوهاته وتلقي باللوم على تخليه عن سلاحه الأقوى المتمثل في ضربات رأسه مما جعل هامته مداساً لصعود المصارعين المخادعين، ليتحول بذلك من مصدر إعجاب إلى مصدر مقت واشمئزاز إلى أن أفل نجمه تماماً.
لم أكن لأزعج القارىء الكريم وذاكرتي بكل ذلك، لو لم أقف على وجه شبه يجمع بين مهزلة (جونز) في حلبات المصارعة، وما جرى من أحداث مُخزية على أرض الواقع، وخصوصا ما شاهدناه ونشاهده من (بطولات) رمزين من رموز الأمة؛ أحدهما ضل طريقه فتجبر وطغى ثم في وحل أفعاله سقط وهوى، والآخر فارق الحق، فضل السبيل وتاه في الظلمات، والله أعلم أي مصير ينتظره!!
فذلكم (صدام حسين)، صاحب الهتاف الشهير (عاشت أمتنا العربية المجيدة)، تخلّى عن واحد من أقوى أسلحة الدمار الحقيقي لأمريكا وغيرها؛ إذ قذف خلف ظهره وصية محمد صلى الله عليه وسلم، حيال الجار أولاً والرعية ثانياً، وراح يتمرد على جيرانه واحداً تلو الآخر، بدأ بحرب خاسرة مع إيران، ثم أخذ استراحة قصيرة استثمرها في حملة تشويه وقتل وتشريد لأبناء شعبه، ثم ثنى بجاره الآخر (الكويت) فعاث فيها سرقة وقتلاً وتدميراً، ثم ما لبث أن واجه من هو أكثر منه ظلماً وجبروتاً (أمريكا) التي بالأمس استخدمته في تحقيق مآربها؛ قدمت له الدعم في حربه مع إيران، ومهّدت له غزو الكويت، وبعد أن دُمِّر العراق، انسحب من الكويت يجر أذيال الخيبة في معركة سمّاها (أم المعارك)، ثم راح في استراحة أخرى يمارس طغيانه في حلقة أخرى من حلقات القهر والقتل لرعيته؛ أبناء العراق، ثم جاءت النتيجة المحتومة (اللهم أهلك الظالمين بالظالمين وأخرجنا وإخواننا المسلمين من بينهم سالمين) ليقف مرة أخرى وحيداً أمام أمريكا في حرب لم تستمر لأكثر من أربعة أسابيع، سمّاها معركة الحواسم؛ سقط فيها النمرود وخسر كل شيء، ليقبع خلف القضبان يواجه مصيره أمام قاض (عراقي) بعباءة قضاء أمريكية، وعلى أية حال الحزن ليس على أكذوبة الـ100% التي انتخبته رئيساً للعراق، وإنما الحزن على حال الأمة الإسلامية العاجزة وهي تستقبل قضية أخرى تضاف إلى قضاياها؛ (العراق) الذي يواجه أذناباً حقيرة تمتطي دبابات أمريكا وطائراتها وبلا هوادة تقصف أرض العراق وأشراف العراق كما كان يفعل صدام وأكثر.
أما الرمز الآخر فهو الفاتح الناعم المختال (الأخ) العقيد الذي ضل ضلاله الأكبر بكتابه الأخضر، جمع فيه ضلالاته وضلالات أمثاله، واستغنى به عن أي كتاب، ثم هوى غارقا في بحر أسود من الضلالات؛ يصدق فيه المثل القائل: (له في كل رقصة عقصة)؛ فها هو لا يزال يردد مبادرته السامة التي يُطالب من خلالها بتبديل الاسم التاريخي للأرض المباركة من (فلسطين) إلى (إسراطين)، وهو الذي كان منذ وقت غير بعيد من أكبر المتاجرين باسم فلسطين وشعب فلسطين. وفي عقصةٍ تحت عنوان طائرة البان أمريكان التي نفى أي علاقة له بتفجيرها لم يكتف بتسليم أحد رعاياه ليتلبس التهمة، بل راح يعلن موافقته على تعويض ضحاياها بملايين الدولارات من أموال ليبيا وشعبها الغريق. وفي موقع آخر أمتع الأمة بعقصة أخرى؛ فبعد سقوط صدام أطلق (مردداً) صرخته القديمة الانسحاب من جامعة الدول العربية مبرراً ذلك بأن المستقبل الزاهر الذي يخدم مصلحة ليبيا العظمى - بمُسمّاها الطويل العجيب الذي ابتدعه لها - لا يكمن مطلقا في انتمائه إلى العروبة بل ينطلق من كونه إفريقيا، وما أن أعلن ذلك حتى انهمرت الدموع العربية حزناً مجدداً على فراقه لتفيق بعد برهة على وجبة دسمة يقدمها العقيد إلى بوش على طبق من (خزي) وهو يوقع على وثيقة تخليه عن أسلحته المزعومة، فوقّع بوش بشماله قرار وقف العقوبات، واستلم بيمينه وثيقة العقيد، ولوّح بها أمام شعبه مبرراً قتل جنوده في العراق بحجة القضاء على أسلحة الدمار الشامل قائلاً بأنه لم يجدها في العراق ولكنه وجدها في ليبيا. وبعدها أراد العقيد أن يداري خزيه وعاره أمام شعبه فأثار موضوع مرض الإيدز الذي انتشر بين أطفال ليبيا بسبب الإهمال في مستشفياتها، ووُجّهت التهمة في ذلك إلى فريق طبي مكون من خمس ممرضات بلغاريات وطبيب فلسطيني (تحت التمرين) اسمه (أشرف أحمد جمعة الحجوج)، وبعد سلسلة ممارسات مريرة من التعذيب - على يد خمسة وعشرين ضابطاً في المخابرات الليبية نالوا تدريباً وافياً وشاملاً من قِبل مجرمين متمرسين في مجال التعذيب من أمثال ليندي أنجلاند وأسيادها في معتقلي أبوغريب وجوانتنامو والمعتقلات الإسرائيلية، ولعل أقل ما طبقوه مع المتهمين الصعقات الكهربائية في المناطق الحساسة من الجسم؛ مثل الصدر والرقبة والأعضاء التناسلية، وأنواع أخرى حقيرة من أساليب التهديد بالاعتداء الجنسي، إلى أن انتزعوا منهم اعترافات باطلة، وذلك وفقاً لما جاء في حيثيات الحملة الدولية لإعادة فتح ملف هذه الجريمة وتقديم المجرمين الحقيقيين للعدالة وإطلاق سراح الطبيب الفلسطيني والممرضات البلغاريات الذين أثبتت التقارير براءتهم - صدر الحُكم عليهم بالإعدام، وفوراً تم نقل الطبيب الفلسطيني ووضعه في زنزانة انفرادية وصدرت التعليمات بمنع أي اتصال به لعزله تماما عن العالم، والتعتيم الإعلامي دائماً هو سيد الموقف، ويبدو أن هذا الطبيب وأسرته - التي أعلنت استحالة الحياة وتوعدت بالانتحار الجماعي في حال تنفيذ حكم الإعدام في ابنهم البريء - سيدفعون حياتهم ثمناً لضعف الإنسانية بوجه عام والإنسان الفلسطيني بوجه خاص ممثلاً ليس فقط في مفكريه وكُتّابه، ومؤسساته، وأحزابه، ونقاباته واتحاداته، بل أيضاً في قيادته التي انصرف أفرادها (إلا من رحم الله) عن مواجهة عدوهم الأوحد وراح كل منهم يبحث عن مصالحه الشخصية، ويوجه سلاحه في وجه أخيه ورفيق مسيرته الجهادية؛ هذا يتهم ذاك بالفساد، وذاك يتهم هذا بالخيانة، واختلط الحابل بالنابل والحق بالباطل وتُرك الشعب المغلوب على أمره داخل فلسطين في مواجهة شارون ودباباته وطائراته وعملائه، وأيضاً تُرك هذا الطبيب خارج فلسطين (ومثله كثير) في قبضة ظالم لا يخاف الله اسمه العقيد، وهذه ليست المرة الأولى التي يتجرأ فيها العقيد على توجيه صفعاته إلى أبناء فلسطين؛ فالجميع يذكر كيف جمع أبناء الجالية الفلسطينية التي تقيم في ليبيا وقذف بهم إلى الحدود الليبية المصرية وتركهم يفترشون الأرض ويلتحفون السماء لمدة تزيد على الأربعة أشهر؛ وهذه وغيرها نسجلها (نحن والتاريخ) للعقيد بمداد من قيء وصديد.
وإني هنا أنظر ببغض شديد؛ تارة إلى أولئك الذين يتخذون من الديمقراطية قناعاً لهم ويتلاعبون بحقوق الإنسان وفقاً لأهوائهم، وتارة أخرى إلى العقيد وعقصاته المقيتة، وأُذكِّرهم بما جاء في التقرير الطبي الذي أعدّه كل من العالم الفرنسي (ليوك مونتاييه) وهو مكتشف فيروز الإيدز، والخبير (البروفيسور فيتوريو كوليتسي)، وذلك بناءً على طلب رسمي من الحكومة الليبية تم بموجبه تكليفهما بالوقوف على أسباب انتقال عدوى مرض الإيذز إلى أطفال بنغازي، يشير التقرير إلى أن سبب التلوث هو فقر الإجراءات الصحية في مستشفى بنغازي التي كان يعمل بها المتهمون، بالإضافة إلى أن المشكلة ابتدأت منذ عام 1997م أي قبل وجود المتهمين بالمستشفى، كماجاء في الحملة الدولية تلك، وأطالب العقيد بإعادة فتح ملف هذه القضية والإفصاح عن المجرم الحقيقي الذي يقف وراء ذلك، وليس فقط الإفراج الفوري عن الطبيب الفلسطيني والممرضات البلغاريات بل أيضاً تعويضهم عن الإساءة التي تسبب بها إليهم جراء ذلك، ومن يدري لعله (أي العقيد) إذا فعل ذلك يواصل هواياته وقصعاته فيتمكن - ولو لبعض الوقت - من مداراة مؤامراته الخسيسة الدنيئة التي انكشف أمرها وتقززت الأنوف من رائحتها النتنة؛ والتي كان يدبرها في الظلام (كما الخفافيش) يريد بها سوءاً بواحد من رجالات هذا العصر الذين يعملون بقوة وصمت ويُسخّرون الغالي والنفيس في خدمة قضايا الأمتين العربية والإسلامية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية وليست الإسراطينية أيها العقيد.
ثم أقف - ونار العجز تحرق فكري وروحي وجسدي - إلى جانب أسرة الطبيب الفلسطيني أواسيهم في الظلم الذي وقع بابنهم (الوحيد)، وأطالبهم بألاّ يقنطوا من رحمة الله التي وسعت كل شيء مُذكِّراً بقول الله القوي القاهر العزيز سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (38) سورة الحج.
والله وحده المستعان.
|