Sunday 19th September,200411679العددالأحد 5 ,شعبان 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "الثقافية"

بخاري في مبادرة للملتقى حول.. بخاري في مبادرة للملتقى حول..
خصخصة العمل الثقافي

1- مقدمة في نشاط الكائن البشري:
يمتاز نشاط الكائن البشري بأن له هدفاً معيناً يسعى إليه من خلال هذا النشاط.. وقد يكون الهدف شخصياً بحتاً.. ولكنه يؤثر ويتأثر بالعوامل المحيطة به سلباً أو إيجاباً.. ولتحقيق هذا الهدف لابد من خطة عمل وبدائل لها.. لمواجهة ما قد يطرأ على خطة العمل الأصلية من معوقات.. قد تؤخر الوصول إلى الهدف.. أو تقضي على جميع الآمال المعلقة عليه.. بحيث يصبح من الضروري البحث عن هدف جديد ووضع خطة عمل جديدة تتناسب معه..
عندما تفكر في صنع سندويتش بالجبنة أو البيض فكل ما تحتاج إليه هو قطعة من الخبز وجبنة أو بيضة.. وهذا نشاط بشري.. ولكن: لماذا صنعت هذا السندويتش؟ قد يكون الجواب المنطقي هو أنك تشعر بالجوع فصنعته لتأكله.. أو أن شخصاً عزيزاً عليك بحاجة إليه فتهديه إليه.. أو غير ذلك فتبيعه إياه (!) وهذا يعني أن النشاط البشري غايته إشباع حاجة معروفة.. وعندما تبيع هذا السندويتش تحصل على ثمنه.. ولكن ماذا حصلت مقابله عندما تهديه إلى شخص عزيز عليك (!؟) ثم هل فكرت كيف وصل الخبز إلى البقالة المجاورة؟ ولماذا يتنوع الخبز من العربي إلى الشامي وصولاً إلى الفرنسي؟ وما هو الفرق بين بيض الدجاج وبيض النعام؟
2- فصل: في الفكر الاقتصادي:
في مثال السندويتش أنت تحتاج إلى خطوات بسيطة و(تمويل) بمقدورك الحصول عليه.. ولكن: ماذا عن المشاريع الكبيرة؟ هذه تحتاج إلى تمويل أكبر وخطة طويلة الأجل.. يجب تقسيمها إلى مراحل.. وبعد انتهاء كل مرحلة يجب إعداد (بلغة المقاولين) مستخلصات يتم قبض ثمنها لتبدأ المرحلة التالية.. هذه نسميها اقتصادياً حوافز.. العمل الاقتصادي (فكراً وممارسةً) يعتمد الديناميكية في جميع خطواته.. فمثلاً: إذا اتضح من خلال سير العمل في أي مشروع أن هناك حاجة إلى إدخال بعض التعديلات على خطة العمل.. أو أن هناك احتياجات أكثر إلحاحاً (لم تكن في الحسبان) ظهرت.. وتقتضي التوقف مؤقتاً في المرحلة التي وصل إليها على أن يعود إلى العمل بعد زوال الظروف الطارئة من حيث توقف المشروع.. فلا يرى بأساً في ذلك..
3- اقتصاديات الثقافة:
في مسألة الثقافة نجد هناك اختلافاً كبيراً في تعريفها.. ولكننا جميعا نعترف بأنها جزء مهم من النشاط البشري.. مهمته إشباع احتياجات معروفة للمجتمع.. وهو ما يمكن أن نطلق عليه مسمى الهدف.. ويحتاج بالضرورة إلى خطة عمل (تسمى أكاديميا: مناهج) وبدائل.. كما تحتاج إلى التمويل والحوافز لضمان حسن سير العمل.. ومن ثم الوصول إلى النتائج المرغوب فيها..
شخصياً لم تربطني بالحركة الثقافية أية روابط.. فيما عدا أننا جميعاً نستعمل الورقة والقلم لإشباع احتياجات حقيقية أو مفترضة للمجتمع.. ولذلك لا أجد غضاضة من الاعتراف بأني أجهل خصوصيات الحركة الثقافية.. ولكن ذلك لا يمنعني من الشعور بالاحتياجات الحقيقية للمثقف.. لكي يؤدي دوره على أكمل وجه.. وفي نفس الوقت حاجة الحركة الثقافية إلى خطط عمل واضحة للوصول إلى أهداف حقيقية معلنة.. يجب أن نعترف أولاً بأن المثقف كائن بشري له احتياجاته الذاتية.. والتزاماته المادية والأدبية تجاه نفسه وأفراد أسرته.. وقد أشرت في مقال سابق إلى أن الأمراء والوجهاء (رجال الأعمال) في عهد عبد الملك بن مروان بدءوا في التسابق نحو دعم المثقفين والحركة الثقافية بأموالهم.. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: ما هو العائد الذي كانوا يتوقعونه مقابل هذا الدعم؟ وسوف أعود بكم إلى حكاية السندويتش في مطلع مقالي هذا عن العائد الذي تتوقعه أنت.. لقاء صنع هذا السندويتش لعزيز عليك دون أن تطلب منه أي مقابل مادي لقاءه..
4- التنمية الثقافية أولاً:
من البدهي أن التنمية الثقافية يجب أن تسبق أي جوانب أخرى للتنمية في المجتمع .. وكان لعامل الاستقرار السياسي في عهد عبد الملك الأثر الكبير في توجيه الاهتمام نحو التنمية الثقافية.. وقد اطلعت على بعض الآراء التي تعيب على الدولة الأموية تركيزها على الثقافة العربية دون غيرها من ثقافات الأمم الأخرى.. وأعتقد أن هذا التوجه كان صحيحاً لأن دخول كثيرٍ من الشعوب غير العربية في الإسلام.. كما أن الحروب كانت قد حصدت كثيراً من المثقفين العرب.. ولو سمح في ذلك الوقت لغير الثقافة العربية أن تزاحمها ربما أدت إلى تراجع الثقافة العربية عن موقعها الريادي.. وبعد أن ترسخت أقدام الثقافة العربية سمح لثقافات الأمم الأخرى في العهد العباسي بالظهور.. وقد أدى تنامي الحركة الثقافية في الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية إلى تنامي حالة المجتمع وتطوره.. وانعكس هذا التطور على الحالة الاقتصادية إيجاباً.. وعاد بالفائدة على المجتمع بأسره ولم يقتصر على المستثمرين من الأمراء والوجهاء فقط.. ولكن: خلال العهد العباسي الثاني كثرت القلاقل وانصرفت الجهود إلى قمعها.. وساعد ذلك على انحسار الدعم عن الحركة الثقافية.. وربما ساعدت الحركة الثقافية نفسها في الوصول إلى هذه النتيجة لانغماس المثقفين حينذاك لما عرف فيما بعد بمصطلح الترف الفكري.. وساعد انحسار الدعم للعمل الثقافي.. والإنتاج الفكري.. إلى تراجع المجتمعات العربية إلى مستويات أدنى في السلم الحضاري..
5- الوضع الثقافي العالمي بعد الحرب العالمية الثانية:
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية فطنت الدول المنتصرة إلى أهمية الثقافة في توجيه المجتمعات نحو المسارات التي يرغب فيها السياسيون.. فسعوا إلى توجيه العمل الثقافي على أسس ظاهرها اقتصادي ولكن الهدف غير المعلن هو سياسي بالدرجة الأولى.. ثم أعلنوا عن حرية الفكر الثقافي مع أن هناك ثوابت لا يمكن تجاوزها بأي حالٍ من المثقفين في الغرب أنفسهم (معاداة السامية مثلاً) وقد لعبت الإيديولوجيا السياسية دوراً بارزاً في تحديد مسار العمل الثقافي.. حسب التوجه الاقتصادي للدولة- المعسكر.. وفي حين تبنى المعسكر الشرقي (الاشتراكي) المفهوم الوظيفي للثقافة.. باعتبار أن كل مواطن يعتبر أجيراً لدى الدولة.. أما دول المعسكر الرأسمالي فقد اعتبرت العمل الثقافي مهنة كسائر المهن.. تخضع لقوى السوق (Top Ten).. ولكنها دعمته بنظام حماية الملكية الفكرية.. وهذه الأخيرة أسيء فهمها.. أو تعمدت دول هذا المعسكر إضفاء تفسير مغاير له.. غير ما هو مطبق لديها.. لغرض الابتزاز السياسي..
6- تعريف الخصخصة:
كان للمرأة الحديدية السيدة تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا السابقة الفضل في انتشار مفهوم الخصخصة على المستوى العالمي.. وكانت فكرتها تتلخص في التخلص من الشركات الحكومية غير المنتجة إلى القطاع الخاص ليتولى إدارتها على أسس تجارية .. وبذلك تتفرغ الحكومة إلى مسؤولياتها الأساسية (!؟) ولكن الذي حصل هو أن مفهوم الخصخصة كان قد سرى كالنار في الهشيم قبل التأكد من نجاح الفكرة.. وهي على أي حالٍ خلصت الحكومة من أعباء كانت تشكل ثقلاً لا مبرر له على ميزانية الدولة.. كيف؟ هذه مكانها في الصفحات الاقتصادية.. عندما نتحدث عن الخصخصة تتجه الأنظار فوراً إلى رجال الأعمال (!) وهذه الشريحة من المجتمع لحقها من الظلم وسوء الفهم ما لحق بالمثقفين أنفسهم.. وأعتقد أن الوقت قد حان للاعتراف بأن لا الحكومة ولا رجال الأعمال ولا حتى المثقفين قد حصلوا بطريقة ما على مصباح علاء الدين.. وأن هذا المصباح في حقيقته ليس سوى وهم نسجته مخيلة الكسالى.. والحالمين بالإثراء السريع دون أي مشقةٍ تقابلها.. إلا أنه للأسف أصبح حقيقة نتعلق بأذيالها صباح مساء..
كل ما فعلته تاتشر في الخصخصة أنها كسرت هذا الوهم.. وأشعرت الجميع أن الحكومة لم تعد تلك البقرة الحلوب التي يستظل بها الكسالى.. وأن رجال الأعمال ليس مطلوباً منهم تمويل المشاريع الوهمية.. غير ذات الجدوى الاقتصادية لمجرد تخفيف العبء عن ميزانية الدولة.. بل المطلوب منهم تفعيل هذه المشاريع على أسس تجارية.. يدفعون عنها فيما بعد ضرائب تدعم ميزانية الدولة.. بعد أن كانت تشكل عبئاً عليها (..) ومن وجهة نظر خاصة أرى أن مفهوم الخصخصة كان هو السبب في تفكيك الاتحاد السوفيتي.. وليس برنامج حرب النجوم.. كما يشاع..
7- هل هذه هي الحرية؟
يحسب بعضهم أن الحرية تشبه أحصنة مفلتة في البرية.. تسرح وتمرح دون أي مسؤولية.. وليس عليها أن تقلق بشأن الطعام والشراب.. لأن أمهم (الطبيعة) قد تكفلت بهما.. أما المأوى والملبس فلا حاجة إليهما.. لأن الحرية تعني فقط الانفلات من كل شيء.. وأهمها طموحاتك الشخصية.. ما لم تكن لديك حوافر قوية .. تؤهلك لتصبح ديك الديوك.. أو ساحر القرية..
8- لغز الاقتصاد الحر:
لعب سوء فهم معنى الحرية دوراً بارزاً في فهم طبيعة مصطلح الاقتصاد الحر.. وحسبوها تنحصر في مفهوم واحد هو: القانون لا يحمي المغفلين (!؟).. وسوف أضرب المثل هنا بالطريق السريع.. هل تحسبون السير فيه على طريقة: كل مين إيدي إله؟.. الحقيقة تقول: لا.. كبيرة.. الميزة الوحيدة لهذا الطريق: أنه خالٍ من المطبات الصناعية.. وإشارات المرور التي تعوق السرعة.. ولكنها مزودة في نفس الوقت بمسارات محددة.. ورادارات تراقب المفحطين ومتجاوزي السرعة المحددة.. وصولاً إلى الأشخاص الذين لا يطيب لهم السير ببطء شديد سوى على الخط السريع.. بحسن نية.. أو بهدف عرقلة سير الآخرين.. والنظام للأسف لا يعترف بالنية.. بل يحاسب على الفعل.. وعندما تقول للجندي: سامحني ما كنت عارفاً ان النظام ما يسمح (!) يقول لك: إن الجهل بالقانون لا يعفي من تطبيقه.. مفهوم الاقتصاد الحر هو نفسه مفهوم الطريق السريع.. بكل حسناته.. وأيضا بكل من لا يرى فيه غير سيئاته.. ومنها أن هذا الطريق لو كان ملكاً حصرياً له وحده .. لا يشاركه الانفلات فيه أحد..
9- غدر المهنة!
تتفق جميع الشرائع الإنسانية على أن الراتب للوظيفة وليست للموظف.. بمعنى أن الموظف أو العامل يتقاضى أجره مقابل عمل محدد يجب أن يؤديه.. على الوجه المطلوب منه.. ويجب أن تتوفر لديه (حد) أدنى من المهارات المطلوبة لهذه الوظيفة- العمل.. وتحسب الأجرة على أساس الخبرات المتراكمة لدى الموظف- العامل.. وليس على أساس خبرة ساعة واحدة مكررة بعدد سنوات الخدمة.. كما تلعب القدرات الشخصية من حيث المقدرة على الابتكار والتجديد.. دوراً بارزاً في تحديد مكانة العامل في قوى السوق.. أما إذا كان النقيب خاله (!؟) فهذه قد تشفع له في سوق الوظيفة فقط.. بعيداً عن قوى السوق..
هناك ثلاث نقاط مشتركة في مجالي العمل أو الوظيفة.. هي جانب المخاطرة.. والتضحية.. والحذر.. مجال العمل الوظيفي قد يعطي الموظف نوعاً من الاستقرار النفسي.. لأن الراتب مضمون آخر الشهر.. ولذلك يقل عامل المخاطرة لديه.. ويتم التضحية ببعض متطلباته النفسية أو الأسرية مقابل امتياز العمل الوظيفي .. ولكن جانب الحذر يبقى مسيطراً عليه.. وفي مقدمتها رضا الرئيس المباشر.. ورضا المراجع في الدرجة (...) حسب مزاج الرئيس اليوم.. ولقمة العيش مرة.. ويدخل من ضمن الحذر المبالغة في تنفيذ النظام.. لأنه يحاسب الموظف على التهاون في تطبيقه.. ولا يحاسبه على المبالغة فيه (..) تسيطر قوى السوق على الحياة المهنية.. وهي متقلبة.. لا تخضع لمزاج العامل ولا حتى إلى مزاج المستفيد (المراجع).. ولذلك يسيطر عامل المخاطرة أو المجازفة على الأداء المهني.. وعلى أي حال لا تخلو أي مهنة من مخاطر.. قد يذهب ضحيتها اخلص أبنائها.. وهو ما يعرف بغدر المهنة.. لأن الإخلاص للمهنة يتطلب قدراً كبيراً من التضحية.. وهنا مكمن الخطر.. لأن المهنة عموماً لا تقدر أهمية التضحية.. بقدر ما تقدر درجة الحذر.. وهذا هو تفسير معنى قولنا: رأس المال جبان.. وإذا كانت الصعوبة تتمثل في التوفيق بين التضحية والحذر.. فإن تجاوز المحن هي نتيجة طبيعية لدرجة تماسك النسيج الاجتماعي بين أبناء المهنة الواحدة أولاً.. ثم في المجتمع بأكمله..
10- إدارة الأعمال:
ليس مطلوباً من المثقف ولا الرياضي وصولاً إلى الفنان أن يكون ملماً بأصول إدارة الأموال.. ولذلك نسمع في الغرب بمسمى: وكيل أعمال.. فالمثقف أو الرياضي أو الفنان ينصرف كلياً إلى عمله الأصلي.. وهو الإبداع في مجال تخصصه.. ويترك مهمة الترويج لعمله.. ومفاوضة الناشرين والموزعين.. إلخ.. مقابل نسبة معينة يتم الاتفاق عليها بين الطرفين.. بناء على خطوط عريضة متفق عليها في مجتمع الاقتصاد الحر..

عبد الرحيم بخاري


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved