Sunday 19th September,200411679العددالأحد 5 ,شعبان 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

شيء من شيء من
الكتابة في زمن الإنترنت
محمد عبداللطيف آل الشيخ

أن تصبح كاتباً صحفياً في زمن الإنترنت معنى ذلك أن تقبل بأن تجلس مع قرائك على طاولة واحدة، محاوراً ومناقشاً ومدافعاً عما تكتب. وبقدر ما تبادر أنت بالفعل، أي بالكتابة، يجب أن تهيئ نفسك لأن تسمع في المقابل ردة الفعل، والتي يجب أن تتقبلها بكل رحابة صدر مهما كانت قاسية أو ظالمة أو غير منصفة.
وكاتب هذه السطور يتعرض بين الحين والآخر إلى حملات شعواء في منتديات الإنترنت، لا تتورع عن شتمه وسبه وتسفيه آرائه. ولا أخفيكم انني في البداية كنت اشعر بشيء من الشعور بالاحباط والضيم والظلم، ولا سيما عندما يخلط الناقد بين الخاص والعام. أو بين من أكون وما أكتب. أو أن يعزل قولاً عن سياقه، ويبرزه دون أن يرتبط بما قبله وما بعده، ثم يُسقطَ عليه حكماً لا يمت لتسلسله العام، ومقاصد كاتبه، بأي صلة.. غير أنني مع الزمن اعتدت على مثل هذه الأساليب، وعلى (الشتم) والسب والهجاء، ومحاولات الاصطياد في الماء العكر، وتحميل مقاصدي ما لا تحتمل، والحكم على النوايا لا على ما أقول، وغير ذلك من الأساليب الكيدية والانتهازية، حتى صار جلدي الذي كان رقيقاً عندما بدأت الكتابة أسمك اليوم من جلد تمساح بلغ من الكبر عتيا، فلا يخترقه نصل، ولا يؤثر فيه سيف ولا خنجر!. وأنا الآن أقرأ مثل هذه الشتائم قبل أن أنام، فأضحك، وأذهب لأسلم عينيي لنوم عميق وكأنني لست ذلك المعني بتلك الرزم من الشتم والتجريح والهجاء.
وأسلوب التشهير بمن تختلف معه هو من أساليب (الهجاء) العربي التقليدية. وهذه الأساليب لا تهمني ولا تعنيني، وأنا ممن يعتبرونها نقيصة، و (عاهة) من عاهات الأدب العربي الذي نفاخر به، لأنها أسلوب مكتظ بالبذاءات والحقارة والتخلف والابتزاز. لذلك فأنا لا أحفل اطلاقاً بذلك الذي يكتب ليشتم ويسب ويهجو، فمثل هذا مريض نفسي، يُسيء لنفسه في حين انه يظن انه يُسيء إليك، وهو جدير بالرحمة والعطف والشفقة أكثر مما هو يستحق ولو قدرا قليلا من الغضب، إنما أحفلُ واهتم وأضع ألف حساب لذلك الذي لا يهمه (شخصنة) المواضيع قدر اهتمامه بالفكرة، فيتناولها من جوانبها المختلفة بكل موضوعية وجدية ناقداً برصانة وحصافة تكاد ان تفقدك ثقتك بنفسك وقدرتك. لهذا فإنني أتعبُ على صياغة مواضيعي واختيارها، وأبذلُ جهداً مضاعفاً للتأكد مما تحمله من معلومات، كما أحرص على منطقيتها، وعقلانيتها، وترابط أفكارها، لا خوفاً من الهَجّائين والبسطاء، ولكن رهبة وخشية من الموضوعيين. فالكاتب الجاد لا يخشى أحداً خشيته من ذلك القارئ المثقف العميق واللماح والذكي، الذي يقرأ بعقله وليس بعواطفه. ولكن.. هل نحن - بدءاً - أمة حوار؟. هذا هو السؤال الذي يفرضه علينا هذا السياق.
فرغم أن الدعوة إلى الإسلام الذي منه تعلمنا الحضارة، كانت تتكئ على الحوار، والجدل، والأخذ والعطاء، والإقناع بالتي هي أحسن، لا بالتي هي أعنف، إلا أن هذه الخاصية الإسلامية المتحضرة، التي عرفناها خلال فجر الإسلام، قد جرى - للأسف - تغييبها فيما بعد، والتآمر عليها. فحلّ الاستبداد محل العدل، والرؤية الفرعونية محل الرؤية المحمدية، والمواقف المتخلفة الأعرابية محل المواقف المتحضرة والمتمدنة، وبعد أن كنا - نحن المسلمين - أهل حوار وجدل ودعوة بالحسنى، كما علمنا نبينا الأمين، أصبحنا اليوم لا نجهل شيئاً مثل جهلنا بأخلاقيات الحوار والاختلاف. يقول الإمام الجويني إمام الحرمين ناصحاً المحاور أو المجادل أو المناظر بكلمات تكتب بماء الذهب: (ويبالغ قدر طاقته في البيان، والكشف عن تحقيق الحق، وتمحيق الباطل، ويتقي الله أن يقصد بنظرهِ المباهاة، وطلب الجاه، والتكسب، والمماراة، والمحك، والرياء، ويحذر أليم عقاب الله سبحانه، ولا يكن قصده الظفر بالخصم والسرور بالغلبة والقهر) . كتاب الكافية في الجدل - ص: 529. ولم أقرأ للموضوعية والحيادية والإنصاف والرصانة وصفاً أفضل من هذا الوصف.
ورغم هذا الصخب المزعج التي تثيره منتديات الإنترنت الحوارية، وجنوحها عن الموضوعية، وامتلائها بأساليب الشتم والهجاء البذيئة، إلا انها رغم كل ذلك (ظاهرة صحية) بكل المقاييس. فأولاً لا بد أن نتفهم أن شعوباً كانت (ممنوعة) عن التعبير عن آرائها مئات السنين، ثم فجأة يُسمح لها بأن تقول ما تشاء لا بد وأن تجد نفسها في البداية في مرحلة (لا توازن) ، لتطغى الجعجعة على العقلانية، والغوغائية على الحصافة، والزعيق والنعيق على العلمية في التناول، ثم لن تلبث هذه المرحلة، شيئاً فشيئاً، أن تضمحل وتزول ليحل محلها الحوار، والنقاش الذي لا بد أن ينحو في النهاية إلى الموضوعية والواقعية والبعد عن الديماغوجية. ولن أكون مبالغاً لو قلت: أن (الحوار) بين أطياف المجتمع المختلفة هو أس التنمية الحضارية في كافة المجالات، ليس لأمتنا فحسب، وإنما لكل الأمم التي تطمحُ إلى الرقي والتقدم، وأن يكون لها مكاناً تحت الشمس. ونحن - كعرب ومسلمين - في أمسّ الحاجة إليه من حاجة الظمآن لرشفة ماء في ظهيرة يوم قائظ.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved