* عدت إليكم أيها الكرام.. عدتُ إليكم بكل الشوق والمحبة والمودة والإخلاص والوفاء.. عدت إليكم بكل البوح الصادق والعطاء، عدت إليكم وكلي أمل أن تكونوا جمعيكم وجميعكن بخير وعافية، وأن يكون الجميع قد قضى إجازة ممتعة وصحية ليكون العود أكثر عطاءً، والبوح أكثر إخلاصاً وجمالاً، وها أنا ذا بين أياديكم.. أصافحكم من خلال (الجزيرة) الرائعة الخالدة الباسقة بجهود رئيس تحريرها المحترم الأستاذ خالد المالك، وكل الشرفاء العاملين فيها، وكل الغوالي قرائها الكرام.. أمد يدي إليكم.. بكل الوفاء وأصافحكم من خلال قول الشاعر:
سلام من صبا بردى أرق
ودمع لا يكفكف يا دمشق
نعم هو بردى.. نعم هي دمشق. نعم هي الشام، بلاد الشهامة والبطولات والفتوحات، بلاد الياسمين والورد والريحان، بلاد نحنُّ اليها دوماً وأبداً ونشتاقها ونحن فيها.. هكذا أحسست، وأنا في دمشق الرائعة حيث الحنين كان يرتفع كزئبق الحقول، وكان يهتف بي إن هي الشام مسقط رأسك، وها هي ذكريات الطفولة والأهل والصحب والمدرسة والحارة.. وما سيكون الشامخ شموخ دمشق.. كبرت عيناي في مسافة الطريق الفاصلة بين توقي وخوفي كان الطريق إلى دمشق طويلاً جداً قضيته ما بين السعودية التي أعيش فيها وأحبها وأفديها بروحي، وبين الاردن الشقيق وصولاً لسورية الخالدة آلاف الامتار قطعناها في رحلة رائعة مع أبي حمدو ومعاونه ابي زياد حيث كانت ارواحنا بين أيديهما.. آلاف الكيلو مترات قطعناها وهما صابران على حرارة الجو وتعرجات الطرقات وصراخ الأطفال وطلبات المرافقين والمرافقات في هذه الرحلة.. أعانهما الله على الذهاب والإياب وعلى ما تحملاه في تلكم الرحلات المتتالية طوال العام.آلاف الأميال.. وآلاف الصور صعدت إلى مخيلتي وأنا أعبر كل هذه الحدود، وكل هذه المسافات والمساحات الشاسعة.. ارتجفت بقوة وارتجفت ضعفاً، وارتجفت من مسافة الفرح.وشاء الوقت أن نلتقي مع أحبتي في دمشق بعد ذاك البعاد، شاء استسلامنا للدنيا ذاك التناسي، وبين مشيئة الوقت والاستسلام كنت أترنح طويلاً.. أحلم عميقاً بيوم يختصر السنين، ويمحو غبارها عن وجهي ويدي.. كانت الشام بيتي، كانت حبي وألعابي وأصحابي كانت حنجرتي، ولغتي، واشتياقي، وأشعاري، كانت رسومي جنوني، تعقلي، واكتئابي، كانت انايَّ وأنايَّ نادرة الحسن بين الجموع، حين وصلت مشارف الشام، فتحت عيني على كل نبتة على كل حجر، على كل صمت وصخب، فتحت نافذة الاتوبيس، تنشقت الهواء، شعرت ان هواء الشام توزع في كل مساحات الفرح، انتفضت مثلما من باغتته الحياة، رجعت طفلة، احسست الضوء يقطر من نهايات اصابعي، وقعت على وجهي دموع سخية، نقية مثل التي بللت وجوهنا في الصغر، كل الأبواب فتحت لي بالحب والشوق واللهفة، وأحسست بأني متوجة بحنيني، وبأنني كنت ومازلت طفلتهم المحبوبة، توجوني بالحب والحنان، توجوني بدفء الدنيا، وعانقتهم بعنف مرور الوقت، وبعنف خطى السنين أحببتهم بطهر ألم الغياب، وجوهم مازالت هي أصواتهم براءتهم، حبهم كنزي الغالي الجميل ما زال هو.. بينهم صغار جاءوا في غفلة الغياب أحببتهم ضممتهم الى صدري، قبلتهم.. كانوا يحومون حولي مثل فراشات أتعبها حب الحياة، بعضهم كبر وتجمل، كهول منهم شاخوا، وشيوخ باتوا على حافة الوقت، تدثرت بدفئهم جميعاً وبحب الشام وصوت شوق في الاعماق يتردد في سكون الروح، يترقرق صافياً كمياه في أعالي الجبال، كنبع بردى، ونبع عين الفيجة، وعين بقين، وعين منين..صعدت إلى قاسيون الشموخ أردت أن أرى الشام كلها دفعةً واحدة، وقفت وحدقت طويلاً.. امتلأت عيناي بكل الشام، كانت تلتمع بأنوارها (مثل عروس خجلى) هادئة جميلة كبحيرة من جواهر..كم هو جميل أن نملك مثل هذه العيون، مثل هذه الأرض مثل هذه النعمة من الجمال، لم ينسني أحد.. مثلما لم أنس احداً، مثلما لم أنس شيئاً فقط عيناي في قمة كآبتهما جمحتا قليلاً، فكان في القلب شيء يشبه الحزن في نزاهة اغلقت ياقة بلوزتي، وكأنني أحبس في النفس صرخة أو صورة الشام، صورة طفولتي، صورة نفسي، وكأني كنت على حافة خوفي من أن ينتزعها مني أحد.لكن لا.. لا أحد يقوى: هي وشم في أعماقي، هي سيماي الاندر جمالاً من كل جميل..ما كان للوقت عمري هناك، كل ما أعرف أنني ظلمت نفسي بالغربة طويلاً.. وظلمت نفسي بهذا الغياب.. وأن الوقت أصبح جميلاً، وجماله هو تلك الوجوه المحبة التي تأسر القلب الروح صور أهلي الأحبة، وذكريات الطفولة.. كل ما أعرف انه لم يكن سهلاً ان أترك كل شيء وأعود. أعود الى هنا حيث الرياض.. حيث الصحراء التي ألفناها، حيث الصحبة الجميلة والألفة والأخوة في ديار الغربة.. حيث مكتبي ينتظرني.. حيث الأوراق والأقلام والصحف والأفكار والدموع. حيث أكتب.. وماذا تراني أكتب..
رحلتي الصغيرة الى الشام يوم اختصر كل سني الغياب يوم مليء هارب من الزمن، كبر علي لعله كان حلماً.. من يدري..
* وبعد: تسأل عني.. اني بخير..
لكن ألف عذاب يطاردني
ارى وجهك في كل الوجوه
وأعرف جيداً أن وجهك لا يتكرر
فيحاصرني الزمان والمكان..
وأهرب من ذكرى الاماكن.. كل الاماكن
تعرف لماذا؟؟
لأنني صرت أنا الغربة.. وصرت أنت أينما كنت المكان..
تسأل عني إني بخير.. لكن حزناً يظل من غير
يفضحني. يثير الدهشة من حولي لأنك بعيد عني
لحظة دفء
جاءني صوتك بعد طول غياب
أرتعش له فؤادي..
ذرفت عيناي دموع الفرح
إني إليك لا أشتاق فقط
ولا أحن فقط، ولا أتلهف فقط
بل أكثر من هذا بكثير
اريد حضورك أن يهطل
أريد لأرضنا أن تخضر
لكي أكون فعلاً بخير
لحظة عطاء
الحب العظيم لا يعرف الحياد..
الحب والشعر حصانان مجنونان يقفزان
فوق حواجز التاريخ
ولا يكترثان بنظام السير، ولا بإشارات المرور
وليس هناك في التاريخ مقيدة قرأت في فنجان القهوة
او امنّت على أصابعها لدى إحدى شركات التأمين
لا أستطيع أن أكتب عنك بحياد..
ولا أن أعشقك بحياد.
فأنت في الصميم في الفؤاد: في الأعماق دون حياد
للتواصل
تليفاكس 2317743 ص.ب 40799 الرياض 11511 |