Saturday 18th September,200411678العددالسبت 4 ,شعبان 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "الإصدار الدولى"

معاناة كبار السن في مجتمعات غربية مفلسة أخلاقياً معاناة كبار السن في مجتمعات غربية مفلسة أخلاقياً

*******
الكتاب: vieillesse La contre société la
المؤلف: Jérôme PELLiSSIER
الناشر: Bibliophane - France- 2004
*******
.. حين تصل الى سن الشيخوخة، تكتشف فظاعة أن تعيش وحيدا ومعزولا، وربما منبوذا أيضا من قبل أولئك الذين توقعت أنهم سيحيطونك بحنانهم كما فعلت أنت بهم حين كانوا صغارا (أي الأبناء) .
الأبناء الذين تخلوا عنك باسم الوقت الضيق وباسم المدنية التي تضيق عاما بعد عاما، تلك المدنية المادية الرهيبة التي لم تعد تستوعب من هم في مثل عمرك ووضعك، وظروفك الصحية والنفسية، لأنك صرت شيخا طاعنا في السن في مجتمع غربي يتحرك باستمرار نحو المادة وكل ما يتحرك رافضا الركود. هذا زمن يبدو ضدك، لأنه زمن لا يملك وقتا للجلوس معك، أو قبالتك، أو على مقعدك ولتناول الشاي الصامت معك.. فعندما ينزل الليل تصير الشيخوخة حملا ثقيلا جدا، لأن العمر يصبح رمادي اللون!..)
بهذه الكلمات القريبة من النقد الأدبي، يتناول الكاتب الفرنسي (جيروم بليسييه) كتابه الجديد: (المجتمع ضد الشيخوخة) الصادر عن منشورات (بيلبيوفان) الفرنسية.
ربما التعرض لإشكالية الشيخوخة من منظور الكاتب تنقسم في الأساس الى جزأين أساسيين أولهما الجانب الإنساني وثانيا الجانب الاجتماعي.
فعلى الصعيد الإنساني، فإن تعريف الشيخوخة لا يمكن أن يتجزأ عن أكثر من فكرة واحدة ومفهوم مشترك بين جميع الناس بمختلف مستوياتهم ولغاتهم وهي (تقدم العمر) . ربما لأن العالم المتغير الذي مارس كل أنواع الجنون العلمي والتكنولوجي، استطاع أن يستنسخ الجينات البشرية لأجل ما يسميه ثورة التشبه بالآخرين، بمعنى بقاء سلالة الفرد في إطار الشبه على المدى البعيد، وهي الثورة التي رفضها العقل الإنساني الحر الرافض لازدواجية العلم القائم على الكيل بمكيالين والتي تعد مساسا غير أخلاقي بالطبيعة البشرية وبما اختاره الله لكل الناس، من ملامح وتميز ووجود أيضا، ومع ذلك، قبالة كل تلك التحركات الثورية نحو الاستنساخ و (الوجود المطلق) كما يسميه بعض العلماء المجانين، إلا أن كل ذلك لم يحد قيد أنملة من الشيخوخة. لم يصل العلم الى العثور على تفسير للشيخوخة من حيث ميكانزماتها الجينية والصحية على حد سواء. كل الثورات العلمية وقفت عاجزة أمام رجل طاعن في السن، يتخبط في شيخوخته المستحيلة، محاصرا بصور الماضي الباهتة، وأصوات كان يعرف مصدرها قبل أن تغيب الذاكرة في حالة أشبه بالأمنيزيا الزمنية.
لهذا كله بقيت الشيخوخة ظاهرة مزمنة منذ بداية الخليقة الى يومنا هذا.
ولهذا أيضا (يقول الكاتب) يشعر المرء بالحزن أمام مجتمعه الذي صنع كل أنواع الفرقة والمسافة بين المسن والشاب. بين العجزة والصغار الذين ينظرون اليوم الى كبار السن من الرجال والنساء كما لو كانوا عالة على مجتمع يتبنى آليا فكرة (التخلص من النفايات) ! والحال أنه من أخطر المظاهر السلبية في المجتمع الغربي هو انغماسه في الماديات على حساب المشاعر، ربما اليوم بالذات من الصعب أن تطلب من شخص أن يرعاك من دون أن تدفع له ثمن رعايته لك. ليس هنالك اليوم شيء اسمه: أنا متفانٍ في خدمتك حبا وإنسانيا من دون أن تقابلها عبارة (كم تدفع مقابل ذلك التفاني؟) ولهذا السبب كان أول من يدفع ثمن مجتمع كهذا هم البسطاء والفقراء والمرضى، وأولئك الذين تقدم بهم العمر ليجدوا أنفسهم خارج الحياة وهم بعدُ على قيد الحياة.
المطلب الإنساني الغائب في المجتمع الغربي يقابله الوضع الاجتماعي الممتد على أكثر من ظاهرة إفلاس أخلاقي، يقول الكاتب، والتي تتمثل في النزعات المادية التي قتلت الشعور الجميل والطيب نحو الآخرين وصنعت الجريمة والعنف والجنس بكل مظاهر الانحلال فيه، مثلما صنعت اللا أمن.
فالمجتمع الذي لا يستوعب ماهية الشيخوخة هو نفسه المجتمع المادي المفلس أخلاقيا، بحيث إن التنازل عن الأسرة صار جزءا من التنازل السهل عن القيمة، يقول الكاتب. بيد أنه من المنظور العام فإن الاعتماد على الآخرين لرعاية والدك أو أمك يعد بحد ذاته أمرا خارجا عن الأخلاق، باعتبار أن الأبوين حين يبلغان سنا متقدمة هما بأمس الحاجة الى العائلة.
صحيح أن ثمة بدائل للعائلة يمكن تسميتها اجتماعيا بدُور العجزة، أو بمراكز الرعاية الشاملة.. وهي في النهاية مراكز إدارية أشبه ما تكون واجهة محل للتباهي به، بحيث إنها في الحقيقة لن تعوض العجزة إحساسهم بالحرمان والجوع الى الدفء الأسري الذي يتولد عندهم بالخصوص في مواسم الأعياد، وفي المناسبات الخاصة التي يشعرون فيها بأمس الحاجة الى بيتهم وأبنائهم وأحفادهم.
في الدول الأوروبية أكثر من 63% من كبار السن يعيشون عزلة مفجعة حتى لو جزمنا أن دور الرعاية بديل حقيقي وحيد متبقٍّ بالنسبة إليهم كي لا يتسكعوا في الشوارع، وحتى لو صدقنا أيضا أن تلك المراكز المتخصصة لا تقصر في خدمتهم ولكن التقصير الحقيقي قادم من مجتمع وضعهم في عزلة إجبارية باسم كبر السن.
العزلة التي يقصدها الكاتب هي اللا مشاعر، والتي أسست مجتمعا لا أخلاقيا في الكثير من الحالات. فعندما تصبح الجريمة جزءا من يوميات الأفراد، وعندما يتحول العنف الى طقوس التواصل مع الآخرين، فلا يمكن أن تتوقع أن يحب ذلك المجتمع كبار السن، مثلما لا تتوقع أن ينظر إليهم نظرة مختلفة عن هذه التي تسود في كل المجتمعات الأوروبية اليوم، يقول الكاتب.
الشيخوخة هي من أصعب وأتعس المراحل التي تواجه الإنسان والتي يسبقها ما يعرف سوسيولوجيا بخريف العمر، بيد أن الشتاء الذي يلي الخريف هو الأكثر بردا ووحشة وعزلة، لأن غياب الدفء فيها هو الموت البطيء واليومي الذي لا يشعر به اليوم سوى كبار السن الذين فقدوا في نهاية عمرهم ذلك الحق البسيط في الأسرة. هم الذين أسسوا أسرة قبل عمر جفت فيه المشاعر كلها، يقول الكاتب.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved