عندما هبّت ريح إرهاب عاتية على الولايات المتحدة الأمريكية، سميّت بـ(11-9)، حشدت لها كل إمكاناتها العسكرية والاستخباراتية والمعلوماتية والتنظيمية.. ولم تكتف بذلك، بل سخّرت العقل والفكر والعلم وأدوات استشراف المستقبل، جاعلة منها أساساً مركزياً للتعامل مع الحدث.. ووجّهت مخازن الفكر، في سياق جهدها الحربي والاستراتيجي لفهم ما أصاب بلادهم ومجتمعهم، وشكّل الرئيس الأمريكي بأمر رئاسي فريق عمل، من علية القوم، مكوّن من مجموعة من الساسة وأصحاب الرأي والاختصاص، يسندهم مساعدون بالعشرات من مختلف التخصصات، ووضع تحت تصرفهم ملايين الوثائق، وأجروا المئات من المقابلات، واستدعوا العشرات من الشهود، وكان السؤال المطروح عليهم: ماذا حدث؟ وكيف يمكن تجنب ما حدث؟ وخرجوا في النهاية بتقرير مفصلّ، كُتب بمنهجية علمية واضحة، سُمي بتقرير (11-9)، مكوّن من (600) صفحة، قدّموه للرئيس، وقَبله، وتبنّى أغلب التوصيات الواردة فيه كسياسة وإجراءات معلنة للدولة للتعامل مع الإرهاب.
هذه مقدمة ضرورية للقول بأهمية دعم دائرة القرار المحيطة بصانع القرار في بلادنا ببيت خبرة استشارية من خيرة عقول هذه البلاد، علماً وخبرةً وتأهيلاً وتخصصاً للتعامل مع قضايانا المحلية والدولية، إذ ليس بخافٍ أن المملكة تواجه هجمة إعلامية وثقافية وسياسية شرسة، تستهدف الدين والقيادة والوطن والثوابت والهوية، كما تعيش وسط أجواء إقليمية مضطربة، فضلاً عن قضايا وشؤون محلية ضاغطة، فرضتها طبيعة المرحلة، أو طبيعة الأحداث الجارية في المنطقة، جعلت المملكة تمرّ، الآن، بمرحلة من أدّق مراحل تطورها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ربما منذ تكوينها على يد المؤسّس - المغفور له - جلالة الملك عبدالعزيز - رحمه الله - الأمر الذي يتطلب مواجهة حكيمة، ومعالجة برؤية شمولية، وروّية وبعد نظر، وهذا تقليد اختطه ودرج عليه مؤسس هذه البلاد - رحمه الله - عندما استشعر بفطرة قائد الحاجة إلى اصطفاء مجموعة متفرغة متخصصة تعينه في صياغة القرارات المصيرية في شؤون البلاد والعباد، ولم يجد غضاضة عندما عزّ وجود المواطن المؤهل أن يستعين بغير المواطن، وأحياناً غير المسلم، علماً بأن الأمور والقضايا لم تكن بالتعقيد والتشابك التي هي عليه في وقتنا الحاضر.
إن البلاد وهي تواجه ظروفاً داخلية وخارجية بالغة التعقيد والخطورة، تفتقر، شأنها شأن كثير من الدول، إلى إحدى الأدوات الحضارية المهمّة للتعامل مع هذه المتغيرات، وهي وجود مجموعة معتبرة من الأشخاص المؤهلين المتفرغين، القادرين على إبداء المشورة العلمية السديدة، والرأي الصائب، وتقديم الخبرة المتخصصة، وإعداد التقارير المعمّقة، وإيصال المعلومة الناجزة، بشأن جملة من القضايا الوطنية الكبرى التي تواجه البلاد في شتى مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ليستفيد منها ولاة الأمر مباشرة عند صناعة القرارات المصيريّة ذات التأثير العميق في سياسة الدولة وحياة المواطنين، على غرار ماهو حاصل في الدول التي تقدمتنا في هذا المجال، حيث تبنّت أفراداً ومجموعاتٍ اصطفتها للمشورة والرأي والتحليل والتخطيط واستشراف المستقبل في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، وهو ما أُصطلح عليهم بمخازن الفكر (Think Tanks)، والمؤسسات الحاضنة لها مثل (روكفلر، فورد، رند، كارنيجي، مجلس العلاقات الخارجية، بروكنيجز، جماعة المشروع الأمريكي)، تُنفق عليها الدول ومؤسسات المال الكبرى بسخاء، وتتفرغ لمهمات الدراسة والتحليل في شؤون الدولة ذات الأهمية الاستراتيجية في ضوء المتغيرات الحاصلة في الداخل والخارج.. وعلى أساس معلومات موثقة، وأبحاث علمية رصينة، وإحصائيات دقيقة، ورصد إعلامي شامل، ومتابعة للأحداث.. تُعدّ هذه المجموعات تقارير عن الأوضاع باستمرار، وترصد التغيرات الاقتصادية والاجتماعية، وتحلل اتجاهات الرأي العام، وتراقب توازن القوى الاجتماعية المتحّركة والساكنة والمتعارضة، مع قدرة فائقة على إعداد مشاهد (سيناريوهات) سياسية واجتماعية واقتصادية للدولة قبالة كل احتمال، كما تهّتم تلك الدول عبر هذه المجموعات من المؤهلين والمتخصصين، بعقد وحضور الندوات والمؤتمرات والحلقات العلمية في الجامعات ومراكز الأبحاث والمشاركة الفاعلة فيها.. وعلى أساس كل ما تقّدم يتم تقديم الرأي والرؤية والمشورة، ووضع الخطط الاستراتيجية لجميع الاحتمالات التي يمكن أن تواجه الدولة في أي مجال، ثم تعرض تلك المجموعات المفكّرة ما لديها على صُنّاع القرار في بلدانهم، ويتبنّونها سياسة عامة، بعد أن يتم إنضاجها من قِبل أصحاب العقول والفكر والخبرة كل في مجال تخصصه.
إن هؤلاء الخبراء يقومون بدراسة كافة الاحتمالات والتطورات الممكنة، ويقدمّون التصورات، ويعرضون المقترحات، في محاولة مستمرة للتوفيق بين الممكن والمحتمل والمستحيل، في ضوء المعطيات والحقائق والمعلومات المتوافرة لديهم.. وكم من مرة نؤخذ على حين غرّة بهذه التقارير والمعلومات والرؤى، وبقدرتها الفائقة، نوعاً وكمّا، على الوصف والتحليل والاستنتاج، وتعلونا الدهشة لهذه الجهوّزية، والتوقيت المناسب، والسرعة التي تُقدّم بها للسياسيين ووسائل الإعلام.. ونستغرب ذلك لأننا ببساطة لا نتوافر على هذه الأدوات الحضارية والفكرية التي تفكر وتبحث وتحلل بحرية وهدوء، وبشكل مستمر وتراكمي، وتُقدّم منظومة متوازنة من الرؤى الشمولية للسياسيين، حتى إذا وُجد شيء من ذلك فإنه يظل الاستثناء، وغالباً ما تكون البنية الاستشارية وطبيعتها مبنّية على الثقة الشخصية أكثر من الجدارة والخبرة والتخصص، وضمن دائرة محدودة، ناهيك عن أن الاستشارة والرؤية التي تُقدّم لصانع القرار تعكس وجهة نظر أحادية لجهة بيروقراطية في جهاز الدولة التي ينتمي لها مصدر الاستشارة، أكثر من كونها رؤية علّمية حرة مدروسة نابعة من رؤية شمولية واستراتيجية، ومجالها الوطن بكل رحابته.
إن البلاد في حاجة ماسة الآن، وفي ظل الظروف القائمة، إلى تفعيل دور مركز الدراسات الاستراتيجية، المركز الوحيد المتخصص في هذا الشأن في المملكة، عبر استقطاب نخبة متميّزة من خيرة شباب هذا الوطن، ومن تخصصات مختلفة في الشريعة والسياسة والاجتماع والتربية والاقتصاد والإعلام والقانون والصحة والتنمية والموارد البشرية، وتكون هذه المجموعة من المستشارين متفرّغة، تقدم المعلومة والرأي المستقل والطروحات في مجال تخصصها.. تقرأ وتلخّص وتستنتج وتستقرئ وتبحث وتستشرف المستقبل، وترصد وتتابع ما يجري من أحداث في الداخل والخارج، وتُقدّم التقارير، وتحدّث المعلومات ذات الصلة، وتشارك في المؤتمرات والندوات والحلقات العلمية المحلية والعالمية.
إن الدولة تواجه قضايا ومسائل ومشكلات مصيرية في الشأن السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني مثل:
حديث الإصلاح بكافة أشكاله وصوره ومجالاته، الإرهاب، التطرّف، الغلّو، الدّين العام، المشاركة الشعبية، الشفافية الإدارية، الحيوية السياسة، حقوق الإنسان، الحريات العامة، التنمية، البطالة، تآكل الطبقة المتوسطة، العولمة، الفقر، قضايا الشباب باعتبارهم أكبر شريحة سكانية في المملكة، قضايا المرأة، بعض مظاهر التفكك الأسري، السياحة والآثار، مشاكل وأزمات الحج، التعليم والمناهج، العنف الأسري، عنف المدارس، المخدرات، الجريمة والانحراف، العمالة الوافدة والسعودة وتوطين الوظائف، الإسكان الميسر واليسير للطبقة المتوسطة وما دونها، برامج الرفاه الاجتماعي الحكومية
(Welfare Programms)، شحّ المياه، الإصحاح البيئي، الأمراض الوبائية والمستوطنة، الفجوة الرقمية، توزيع خدمات الدولة مناطقياً ومعالجة اختلالات توزيع الخدمات، التوازن المناطقي، الرسوم والخدمات، الإعاقة، غلاء المعيشة، الإعانات والدعم الحكومي، المواطنة والهوية،انخفاض مستوى الدخول للمواطن، السياسة الخارجية، المشاكل الحدودية، قضايا العمل الخيري والجمعيات الخيرية في الداخل والخارج، العمل الدعوي في الخارج مقابل الانكفاء على الذات، الإعلام الخارجي وصورة المملكة في الخارج... وغيرها من القضايا التي لم يُعد كافياً فيها الاجتهادات الفردية أو العفوية، بل تحتاج إلى فكر وخبرة وتخصصّ وتفرّغ ومتابعة، لكي تُعين وليّ الأمر على صياغة سياسات وأهداف وقرارات مستنيرة،ومحققة للمصلحة العامة والعليا للوطن، في هذه القضايا وغيرها، بأقلّ قدر من الاثار والتبعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
لعل مهّمات بهذه الخطورة والحيّوية، وموضوعات بهذا القدر من التنوع والتأثير المباشر في حياة الفرد والأسرة والمجتمع، وفي سياق موقع المملكة وأهميتها الإقليمية والدولة، لابد أن يضطلع بها، وبشكل مؤسسي، نخبة مُصطفاة، متفرغّة من المتخصصين والمتميزين في المجالات التي يحتاج فيها ولاة الأمر إلى استشارة متخصصّة، ليبني عليها قراراً سياسياً أوسيادياً، أو سياسة عامة للدولة، أو أمور تهم المواطن وتؤثر عليه في حياته ومعيشته، كما ينبغي في عضو المجموعة أن يكون من المشهود له بالولاء والتوازن، والواقعية في الطروحات والآراء، وعلى جانب من سعة الأفق، والقدرة على النظرة الشمولية، هذا فضلا عن ضرورة التميّز العلمي، وتوافر الخبرات العملّية، والقدرات التحليلية، وإجادة بعض اللغات الأجنبية.
إن بُنية استشارية بهذا التصور والطموح قد يستغرق تكوينها بعض الوقت، ولكنها ضرورة ملّحة، واتجاه علمي سليم، ما أحوج الوطن إلا البدء في تأصيله من الآن؛ حتى تتجنب البلاد سلبيات الإدارة بالأزمات، والمعالجات عبر ثقافة (الحملات)، وردود الأفعال، والمعالجات الوقتية والجزئية، أو العاطفية والغاضبة، تجاه القضايا الضاغطة والحساسة التي تواجه المملكة.. ولعلها خطوة عملية لتحقيق هذا الأمل وجود الوعاء المؤسسي لاحتواء هذه المجموعة، والذي تأسس منذ عقدين من الزمن، لكنه يحتاج إلى تفعيل حقيقي، ودعم مادي سخي من الدولة، ونظام داخلي مرن، لكي يضطلع بهذه المهمة الاستراتيجية الملّحة.. هذا الوعاء الواعد: مركز الدراسات الاستراتيجية.
كاتب سعودي
|