المكرم- رئيس تحرير جريدة الجزيرة.. رعاه الله..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
أرجو أن أجد لديكم مجالاً للتعقيب على مقال الكاتب- محمد الدبيسي، المعنون ب(حجاب)، والذي نشر في الثالث والعشرين من رجب (العدد رقم:11668).. وسوف يكون تعقيبي مندرجاً تحت وقفات أربع..
الوقفة الأولى:
ابتدأ الكاتب مقاله بادعاء لا يمت إلى الحق بصلة أبداً!..
يقول في بداية مقاله: (في مسيرة ظاهرة الحجاب من العادة الاجتماعية إلى المظهر الديني ما يوجب قراءة)!!.. ويؤكد على قوله هذا في وسط مقاله حين يصف هذه (الظاهرة) -كما يقول!- بأنها (مظهر مسلكي متمم لعادات اجتماعية وإسلامية ومعبر عنها)!!!..
عجباً!!..
كيف تقلب الحقائق؟!..
هل صار الحجاب (ظاهرة) انتقلت من كونها (عادة اجتماعية!) إلى أن أصبحت (ظاهرة دينية)؟!!..
لا أدري من أين جاء الكاتب بهذا القول الغريب؟!..
وكيف تجرأ بأن يصف هذه العبادة والشعيرة الدينية العظيمة بقوله: (عادة اجتماعية)؟!..
(عادة اجتماعية)؟!!..
رويدك أيها الكاتب -هداك الله- !.. فلقد دفع بك قلمك إلى شفا جرف هار!!..
إن من الخطأ العظيم، أن توصف شعائر الله بأنها ظواهر أو عادات اجتماعية!!..
يقول ربنا جل وعلا: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} ويقول سبحانه: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ } ..
إن هذه الشعيرة الجليلة لا تخفى على عوام المسلمين، فكيف تخفى على من يفترض فيهم أن يكونوا أهل اطلاع ونظر؟!!..
والغريب في مقال الكاتب أنه وصف هذه (الظاهرة والعادة الاجتماعية!) بعد ذلك بأنها داخلة ضمن (إطار المندوب فقيهاً)!!..
ولا أدري كيف جمع الكاتب بين هذين الوصفين، مع أن (المندوب) حكم شرعي من الأحكام الشرعية الخمسة المعروفة؟!!..
عجباً..
إذاً فالكاتب يناقض نفسه بنفسه!!.. فها هو قد رجع ليصف (الظاهرة الاجتماعية!!) بأنها معدودة ضمن (إطار المندوب فقهياً)!!..
وعلى هذا فإن هذه (الظاهرة) لم تعد (ظاهرة)!، بل صارت حكماً شرعياً كما يقول الكاتب- والحمد لله-!!..
وهذا هو الحق الذي يجب أن ندين الله به.. وهو أن شعائر الله جل وعلا أحكام ملزمة لا يصح أن توصف بمثل هذه الأوصاف..
الوقفة الثانية:
جعل الكاتب الحجاب الشرعي ضمن (إطار المندوب فقهياً)..
وهذا أمر مردود عند جماهير العلماء.. بل إن كتبهم حافلة ببيان وجوب الحجاب، استناداً إلى الوحيين: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم..
وسوف أشير إلى شيء من ذلك إبراء للذمة، وإرشاداً لمن يجهل ذلك، وإلا فإن بيان ذلك مفصلاً أكبر من أن يستوعبه تعقيب قصير كهذا..
يقول الباري سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ }..
قال ابن عباس رضي الله عنهما: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عيناً واحدة (تفسير الطبري: 22-45).
وقالت أم سلمة رضي الله عنها: لما نزلت هذه الآية خرج نساء من الأنصار وكأن على رؤوسهن الغربان من أكسية سود يلبسنها (أحكام القرآن للجصاص: 3-371).. وورد مثل ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه وعبيدة السلماني رحمه الله وغيرهما..
قال الإمام عبدالعزيز بن باز رحمه الله: (الجلابيب جمع جلباب، والجلباب هو ما تضع المرأة على رأسها للتحجب، والتستر به، أمر الله سبحانه جميع نساء المؤمنين بإدناء جلابيبهن على محاسنهن من الشعور والوجه وغير ذلك، حتى يعرفن بالعفة فلا يفتتن، ولا يفتن غيرهن فيؤذيهن) (رسالة من مسائل السفور والحجاب: ص6)..
وروى البخاري ومسلم عن أم عطية رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق والحيض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين (قلت: يارسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب؟ فقال: (لتلبسها أختها من جلبابها).
ولا أدري هل يفهم من هذا الحديث أن الحجاب واجب أم مندوب؟!..
يجيب ابن حجر قائلا: (فيه امتناع خروج المرأة بغير جلباب).. ويقول الألباني رحمه الله: (الجلباب لستر زينة المرأة عن الأجانب، فسواء خرجت إليهم، أو دخلوا عليها، فلا بد على كل حال من أن تتجلبب). ويؤيد هذا ما قاله قيس بن زيد: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة بنت عمر، فجاء رسول الله فدخل عليها، فتجلببت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن جبريل أتاني فقال لي: أرجع حفصة فإنها صوامة قوامة، وهي زوجتك في الجنة)، وقد صح عن عائشة أنها كانت إذا صلت تجلببت، فدل على أن الجلباب ليس خاصاً بالخروج (حجاب المرأة المسلم: هامش ص:40)..
وقال تعالى:{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}..
قال الشنقيطي رحمه الله: (خطاب الواحد يعم حكم جميع الأمة، ولا يختص الحكم بذلك الواحد المخاطب، لأن خطاب النبي لواحد من أمته يعم حكمه جميع الأمة، لاستوائهم في أحكام التكليف، إلا بدليل خاص يجب الرجوع إليه) (أضواء البيان: 6- 589)...
وقال الرب جل وعلا: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}..
عن محمد بن سيرين رحمه الله قال: قيل لأم المؤمنين سودة بنت زمعة رضي الله عنها: ألا تخرجين كما تخرج أخواتك؟. فقالت: والله لقد حججت واعتمرت، ثم أمرني الله أن أقر في بيتي، فوالله لا أخرج. فما خرجت حتى أخرجوا جنازتها (أحكام القرآن للجصاص:3-359)..
قال ابن باز رحمه الله: (وإذا كان الله سبحانه يحذر أمهات المؤمنين من هذه الأشياء المنكرة من صلاحهن وإيمانهن وطهارتهن، فغيرهن أولى وأولى بالتحذير والإنكار ) (رسالة في مسائل السفور والحجاب: ص14)..
بل صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لأزواجه بعد منصرفه من حجة الوداع: (هذه ثم ظهور الحصر) (رواه أحمد وغيره وصححه ابن حجر والألباني رحمهما الله)، يقول ابن الأثير رحمه الله في كتابه (النهاية) (1- 380): (أي أنكن لا تعدن تخرجن من بيوتكن، وتلزمن الحصر، وهي جمع الحصير الذي يبسط في البيوت).. وإذا كان الله سبحانه قد نهى المؤمنات أن (يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) من الخلاخل ونحوها، هذا وهي مخفية، فكيف بالظاهرة؟!..
ثم إني أسأل الكاتب في نهاية هذه الوقفة -وبعد ما تقدم من أدلة كافية لكل باحث عن الحق-: ما الذي تفهمه من هذين الحديثين:
عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والدخول على النساء).. وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: (كنا نغطي وجوهنا من الرجال) (أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي)..
ما الذي تفهمه منهما؟؟..
الوقفة الثالثة:
يقول الكاتب- متحدثاً عن القول بوجوب الحجاب- (انشداد يخرجها من إطار المندوب فقهياً إلى جريرة الاعتداد بها أساً عقدياً وجوهراً إيمانياً، مما يخرجها من كونها مظهراً مسلكياً متمماً لعادات اجتماعية وإسلامية ومعبراً عنها في دائرة الأخلاق، للتحول إلى رهان على الموت، وشرط لحياة نفسين حرم الله قتلهما إلا بالحق.. وتتم المزايدة عليها في حادثة الصحفيين الفرنسيين، رامزة لسلوك يسمه القائمون به بأنه إسلامي...)..
وأنا أقول للكاتب- وفقه الله لهداه-: إن الأخطاء التي قد تصدر من بعض المسلمين لا يجوز أن تلحق بالإسلام مهما كان..
إن حادثة اختطاف الصحفيين الفرنسيين خطأ وقع فيه بعض المسلمين، ولكن هذا الخطأ يبقى خطأ لا يجوز أن نلحقه بغيرهم، فكيف نلحقه بالإسلام؟!!..
ولقد حكى لنا التاريخ ضمن ما حكاه أن قتيبة بن مسلم رحمه الله فتح سمرقند بجيشه غدراً، فجاء وفد من أهل سمرقند إلى عمر بن عبدالعزيز رحمه الله يشكون إليه قتيبة رحمه الله وجيشه، فكتب عمر رحمه الله إلى عامله هناك (سليمان بن أبي السري) أن أجلس لهم القاضي لينظر في أمرهم، فقضى لهم القاضي المسلم بأن يخرج الجيش منها إلى معسكره، وينابذهم على سواء، فيكون صلحاً جديداً، أو ظفراً عنوة. وعند ذلك قال أهل سمرقند: بل نرضى بما كان، ولا نحدث حرباً. وتراضوا بذلك (الكامل في التاريخ: 4- 327)..
ولم نسمع أو نقرأ كلاماً لأحد يربط فيه بين الجهاد كشعيرة لا تنكر، وبين ذلك التصرف الخاطئ من الجيش المسلم..
ولذا فإن خطأ الواحد منا لا تصح نسبته إلى الإسلام أبداً..
الوقفة الرابعة:
وهي وقفة كان حقها التقديم، غير أني أخرتها لأجل أن تثبت في الأذهان..
أقول: كما أن الطب مهنة لا يسوغ أن يتكلم فيها إلا الأطباء، والهندسة لا يصح أن يتكلم يها إلا المهندسون، و...و...و...إلخ، فإنه يجب علينا في المقام الأول ألا ننطق بحكم شرعي ونتبناه وندعو إليه ما لم نكن من أهل الفقه والفتوى، المتخصصين فيه، والمتضلعين في البحث في أحكامه.. فإن الفتوى - في الحقيقة- توقيع عن رب العالمين.. لا يجوز أن يتجرأ عليها كل غاد ورائح..
ورحم الله الشاعر إذ يقول:
إذا لم تستطع شيئا فدعه
وجاوزه إلى ما تستطيع
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
ماجد بن محمد العسكر /الخرج
|