حرية الإنسان أغلى ما يملكه الإنسان، ومحاولة مصادرة هذه الحرية، أو الانتقاص منها، يورث الإنسان همّاً وقهراً لا مثيل لهما، خاصة إذا كان يؤدي كلّ واجباته تجاه مجتمعه، ولا يتعدّى، أو يحاول أن يتعدّى على حرية الآخرين.
وهذه الحرية لا تنحصر في شكل واحد، أو عدة أشكال من الحقوق، أو الخصوصية، بل تحمل ما لا نهاية له من المعاني، وما لا يمكن حصره من القيم، وليس من حق أحد - مهما كان هذا الأحد - أن يصادر معنى واحداً من تلك المعاني، أو أن يخترق قيمة واحدة من تلك القيم. وقد كفل الدين الإسلاميّ السمح حريةَ الإنسان وحقوقَه، وقبل ذلك عرف العرب، حتى في عصر الجاهلية، معنى أن يحترم الإنسان خصوصية الآخرين، وأن يربأ بنفسه عن التدخل في هذه الخصوصية، أو يحاول دسّ أنفه فيما لا يعنيه، حتى أن العرب لم يكونوا يقصدون بيتاً يطلبون من أهله ضيافة، أو مساعدة، إلا إذا رأوا علامات، أو بوادر صادرة من أهل ذلك البيت، توحي باستعدادهم لاستقبال ضيف، أو إغاثة ملهوف، أو إعانة محتاج.. لذلك كانت النار المشتعلة ليلاً تعتبر نداءً، ودلالةً على استعداد أهل البيت لاستقبال الضيوف، أولئك الضيوف الذين كانوا لا يقتربون من تلك النار إلا بعد أن يستأذنوا من أهلها، وهذه واحدة من القيم النبيلة التي حافظ عليها ديننا الإسلامي، بل ونمّاها، وشجّع عليها، يقول الله تعالى في محكم آياته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} من سورة النور - الآيتان 27، و28.
أقول هذا في الوقت الذي نرى فيه الكثيرين ممن يضربون بعرض الحائط هذه القيم النبيلة، فيطرقون بابك من دون موعد، ويجبرونك على استقبالهم، حتى ولو لم تكن مستعداً لذلك، بل قد تكون تعيش في نفسية تعبة، وتمرّ بظروف قاهرة، لا تستطيع معها تطويع نفسك لمجاملة هذا، أو معاملة ذاك، لكنك تجد نفسك ملزماً بما ليس لازماً عليك، وكم سيغضب هؤلاء إن لم يجدوا لديك ترحيباً حاراً بهم، وصدراً واسعاً لسماع أحاديثهم، وأكثر من ذلك، استعداداً تاماً لتلبية مطالبهم!!
وما يحدث في عصر التقنية أدهى وأمرّ، وأدعى إلى الاستغراب والاستنكار؛ فقد تكون مصلياً، أو نائماً، أو متحدثاً، أو مستمعاً، أو شاكياً، أو باكياً.. أو في أية حالة، هي حالتك، وأنت الأولى بها، والأحق بعيشها.. فتقطع عليك حالتك تلك رسالة (تزعق على جوّالك) ليست من قريب أو صديق، لتحمل إليك خبراً، أو لتسأل عن أحوالك، لكنها من دخيل متطاول عليك، ليس بينك وبينه سابق معرفة، ولا تدين له بموعد أو معاملة من أيّ نوع.
وتقرأ الرسالة.. فإذا هي من مريض في العقل، سقيم في الخلق، جعل من نفسه التافهة سلطاناً عليك؛ فأخذ يشتمك ويستعلي عليك، متوارياً خلف جوّال، ظاناً أنه يستطيع أن يقتحم عليك حياتك، وينغّص عليك عيشك، وينسى أنه في ذات الوقت يكشف عن رخص في ذاته، وخَوَرٍ في أخلاقه، وأنه أدنى مكانة من أن يعرّف بنفسه، أو على الأقل يعتقد بإنسانيته - إن كان إنساناً -!!
في الآونة الأخيرة، ازداد الأمر سوءاً؛ فاقتحمت شركات الإعلان علينا حياتنا، وأصبح أمراً عادياً أن تستيقظ من عزّ نومك، وأحياناً بعد منتصف الليل على صراخ جوالك، لتقرأ رسالة من بعضهم ينصحك بأن تكون فريسة سهلة له، فتتصل على الرقم (0000000) ليتفضل هو بسرقتك، حتى لو ادّعى أنه موفق لرأسين في الحلال!!
لقد تعبنا كثيراً من مثل هذه التطاولات، ولا نذكر أبداً أننا خولنا أحداً بأن يقتحم علينا حياتنا بهذه الفظاظة، ولم نوافق عندما تعاقدنا مع شركة الاتصالات على اقتناء جوالنا، على أن نستقبل مثل هذه الترّهات... وتاليتها؟!!!
|