حينما لا تخضع حرية التعبير في الفن والفكر والعلم لأحكام وتقديرات الجمال والقبح.. أو الخطأ والصواب.. أو العمق والضحالة.. الخ.. بل تخضع لأحكام وتقديرات المسموح والممنوع..المرغوب والمحظور.. أو المقبول والمرفوض.. يبقى المجتمع رهن القوالب التقليدية واختلال معايير الحكم على الأشياء، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى الغلو والتطرف والانغلاق.
يردد العرب في أمثالهم أن (الملافظ سعد).. أي إن استخدامك للكلمة الحلزونية لكنها إيجابية للوصول للمعنى أفضل من استخدام الكلمة المباشرة إذا كانت غير إيجابية.. ويؤيد ذلك علماء التفكير الإيجابي.. المشكلة ان ذلك التفكير عند معظمنا تجاوز حدوده ونطاق مفهومه إلى كل شيء تقريباً.. فسوف تجد من يرفض كلمة الديموقراطية مثلاً.. لكن حينما تصفها بأهدافها يقبلها.. أي إن اعتراضه هو على الاسم.. ونفس الكلام ينطبق على كلمة الدستور التي يقبلها إذا أسميتها تشريعاً.. وكلمة قانون التي يقبلها إذا أسميتها (نظاماً).. وكلمة قيود التي يقبلها إذا أسميتها (تنظيماً).. الخ، هذه الأفعال تقود إلى أسئلة عن الأسباب والمسببات.. هل هو استغراق في الإيجابية؟.. هل هو تقليد للنعامة ودفن الرأس في الرمال؟.. هل هو الكياسة والدبلوماسية في الحديث؟.. أم أنه التفاف على المعاني وتطويع للكلمات.
إبداء الرأي رمزاً دون التصريح به.. أسماه البعض دبلوماسية وأسماه آخرون تحايلاً على حرية التعبير.. كما يرى آخرون أن الطباق والجناس والتورية والتصحيف والكناية نوع من التعويض الذهني والمداورة بدلاً من إبداء الرأي الصريح.. وهذا قهر لحرية التعبير.
الجدل ما زال يدور بين المهتمين والعامة هل التفكير فطرة أم مهارة؟.. وهل يمكن تنميته واكتسابه عن طريق التعليم والتدريب؟.. وهل المبادرة والريادة والاستيعاب والقدرة على الاستشراف هي نتاج لمهارات التفكير؟.. أم هي قدرات يضعها الخالق في من يشاء من خلقه؟.
كما يتساءل المهتمون ما الذي يمنع الفكر من الانطلاق والتحليق في كل آفاق المعرفة؟.. وما الذي يعيق القدرة على التعبير.. هل هي عوامل داخلية نفسية شخصية تولد مع ابن آدم؟.. أم هي خارجية مفروضة؟.. كواقع البيئة.. وحال التربية.. وقمع النظام.. وإذا كان مانع التفكير داخلياً.. هل يمكن اجتيازه بالتدريب؟.. وإذا كان المانع واقع البيئة فهل يمكن تجاوزه بالتربية؟.
يقول علماء الاجتماع إن النص والتاريخ والمجتمع والعائلة والسياسة والسلطة الدينية.. والخوف من خسارة المكتسبات والخوف من النفس.. كلها عوائق لحرية التفكير.. من هنا يثور سؤال ملح وهو.. هل القائم من عادات المجتمع وتقاليده وأعرافه.. وما يحيط بالفرد من ظروف وما يرثه من تراث.. تعد وسيلة من وسائل تحفيز التفكير أم أنها من وسائل قمع الفكر وتحجيم الرأي؟
من الثابت أن كل عصر له فلسفته.. تلك الفلسفة تفرضها الأمم التي تسود ذلك العصر.. وفلسفة هذا العصر تقوم على احترام الفرد وحياته وحريته واعتبارها أولويات مطلقة.. وسعادة الفرد هي الهدف الذي تسعى إليه حضارة العصر الذي تمسك فيه أمريكا والغرب بعجلة القيادة.. وتقوم على فلسفة احترام الحرية الشخصية واعتبارها قيمة عليا وغاية نبيلة.
لكن من يحدد السلوكيات النموذجية التي تحقق السعادة للفرد ذلك المكون الأساسي للمجتمع.. دون الإضرار بالمصلحة العامة للمجتمع؟.. أمريكا والغرب حسما الإجابة على هذا السؤال وقررا أن الفرد ذاته هو الذي يجب أن يحدد ويختار لنفسه من السلوكيات ما يرى أنها تحقق سعادته.. وإذا علمنا أن لكل فرد مصلحته وأجندته الخاصة التي قد تتباين تبايناً شديداً فكيف سيتم إذن حفظ حق ومصلحة المجتمع.. وكيف يتم حسم الأمور والآراء متعددة ومختلفة، لقد أرسى الغرب قاعدة الأغلبية لترجيح رأي على آخر.
حرية التعبير والتفكير والتجمع والعمل والاختيار والامتلاك والاعتقاد والاتصال والانتقال والمنافسة.. حريات أساسية لو تنازلت عنها بعض الشعوب طوعاً أو قهراً.. تكون النتيجة تخلفاً.. هكذا حدد الغربيون فلسفتهم.. وهكذا صار بند حرية الفرد بنداً رئيسياً في الدستور لا يمكن التنازل عنه تحت أي مبرر عملي أو أخلاقي أو فكري.. ولعل المتتبع لقرار المحكمة الأمريكية العليا إبان فترة رئاسة كلينتون الأولى وكيف أن قراراً مقدماً من البيت الأبيض ومدعوماً من الكونجرس ومجلس الشيوخ.. خاصاً بمشروع قانون يحد كثيراً (وليس يمنع) الأفلام الإباحية على شبكة الإنترنت.. نقضت المحكمة العليا ذلك القانون وألغته تحت مبرر أن ذلك يحد من حرية التعبير والاختيار.. وهذه من مكونات الحرية الشخصية المطلقة المنشودة للفرد الغربي.. وهي قيمة عليا لا يمكن حجزها أو إلغاؤها أو الحد منها تحت أي مبررات.
وأعلنت المحكمة الأمريكية العليا إنها رغم رفضها لهذه الأعمال الإباحية إلا أنه يجب مكافحتها عن طريق التوعية والتوجيه وليس عن طريق كبت الحريات.
قال ديكارت أنه يشك إذن هو موجود.. ورد غيره أنه حر إذن هو موجود.. وقال آخر أنه يفكر إذن هو موجود.. واكتفى آخرون بأنهم يحبون أو يكرهون أو يسمعون أو يرون إذن فهم موجودون.. وكثيرون في الأرض يرددون نحن نأكل إذن نحن موجودون.. وهؤلاء جميعهم لم يكذبوا فالوجود يعني كل هذه المشاعر والأفعال معاً.. واحترام هذه المشاعر والأفعال جزء من فلسفة الحياة.
|