تمثل الانتخابات البلدية القادمة نقطة تحول تاريخية في مسيرة التنمية الوطنية بالمملكة العربية السعودية ، وتجسد في الوقت ذاته حرص الدولة على المضي قدماً في مسيرة الإصلاح وتوسيع نطاق المشاركة الشعبية ، وتنطلق الانتخابات القادمة بشكل واسع وشامل على امتداد الوطن ، حيث تستهدف اختيار 178 مجلساً بلدياً.
وعندما نستقرئ التاريخ السياسي لبلادنا الغالية ، نجد أن للانتخابات السياسية جذورها في عهد الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود ، حيث حرص - طيب الله ثراه - منذ البدايات الأولى لتأسيس البلاد على الأخذ بمنهجية الانتخابات في تشكيل المجالس البلدية وغيرها ، وفقاً لظروف تلك المرحلة التي تختلف بالطبع عما هو عليه الوضع حالياً.
والبلديات تمثل ما يعرف بالإدارة المحلية التي تمس أعمالها الاحتياجات المباشرة للسكان على مستوى السكن ، وعلى مستوى الحي وعلى مستوى المدينة أو المحافظة.
ولذلك فإن توسيع دائرة المشاركين من السكان المواطنين في تخطيط وتوجيه شؤونهم البلدية ، واختيار الممثلين للسكان بإرادة مجتمعية ، يعكس فكراً صائباً لنشر ثقافة الانتخابات وتفعيلها على الواقع ، والانطلاق التدريجي المتأني إلى مرحلة لاحقة عقب نضوج هذه التجربة فهي القاعدة في سلم المشاركة الشعبية.إن مشاركة المواطنين في انتخاب ممثليهم لرعاية شؤونهم الحياتية المباشرة يعمق لديهم الشعور بالمسؤولية وروح المشاركة ، كما يزيد لديهم الإحساس بالدور الوطني. وهذه الانعكاسات تخلق حافزاً لدى المسؤولين والمواطنين لبذل المزيد من الجهود لتحقيق تطلعاتهم في تطوير الأداء وتحسين الخدمات ، وذلك يسهم في التخفيف من تحميل الدولة مسؤولية كل قصور.
ويعكس قرار مجلس الوزراء بتوسيع مشاركة المواطنين في إدارة الشؤون المحلية عن طريق الانتخابات من خلال تفعيل المجالس البلدية ، تأكيداً لما سبق وأن أشار إليه خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين لتكون هذه الانتخابات تجسيداًَ للإرادة العامة وتأسيساً لمرجعيتها.
والمنتظر أن يكون للمجالس البلدية دور فاعل يسهم في تأسيس المواءمة المطلوبة بين توفر الخدمات العامة واحتياجات الأحياء السكنية ، وتوفير مقومات ومستلزمات توازن الخدمات البلدية.
لا نريدها مجالس تقليدية يركز أعضاؤها على وجاهة الموقع أكثر من مواكبة تطلعات المواطنين وإدراك مقتضيات المسؤولية الوطنية ، نريد لها دوراً فاعلاً في ترسيخ مفهوم المجتمع المدني بعيداً عن المزايدات.
نأمل في أن يكون لها دور في التخطيط البلدي والعمراني بما في ذلك المساحات الخضراء ووقف الزحف الخرساني عليها.
وإذا كان الدكتور عبد الله بن إبراهيم العسكر والدكتور مشاري النعيم قد أشارا في مقالين رائعين إلى أن الحاجة ماسة للخروج من مأزق المركزية ، وطرحا سؤالاً عريضاً : كيف للمجالس البلدية أن تنجح وكل القرارات تصدر من جهة مركزية ؟ وأكدا على أن مأزق المركزية خطر أكيد يواجه المجالس البلدية ، والواقع أن الحاجة بالفعل ماسة للأخذ بمنهج اللامركزية في التعامل مع المجالس البلدية ، وذلك يقتضي سرعة العمل على إعادة هيكلة البناء التنظيمي لوزارة الشؤون البلدية والقروية ، ويترافق مع ذلك تجديد مهام ومسؤوليات المجلس البلدي بصورة علمية واضحة.
ومن جانب آخر أظن أن هناك حاجة إلى نشر ثقافة الانتخابات عبر وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة لتنوير المواطنين بماهيتها وأهميتها ، وتأكيد ضرورة الارتقاء فوق العاطفة والانتماءات باختلاف صورها ، ليظل الوطن فوق كل اعتبار وفوق كل انتماء ، وأن يكون القرار نابعا من الحس الوطني بعيداً عن كل الاعتبارات الأخرى ، فهي مسؤولية وطنية على الناخب والمنتخب.
إننا نعيش اليوم في خضم حقبة زمنية تعولمت فيها الأمم ، وأصبح الحدث الذي يجري في دولة ما يشاهد في ذات اللحظة في جميع الدول الأخرى.
إن العالم اليوم أصبح قرية كونية GLOBAL VILLAGE فالانتخابات البلدية ستكون تحت مجهر وأنظار العالم ، وعلينا أن نكون في مستوى الحدث نعكس المستوى الحضاري الذي بلغه الإنسان السعودي من خلال تفاعل واع مع هذا الحدث المهم.
فقد تمثل هذه الممارسة الانتخابية تجربة وامتحاناً ليبرهن الإنسان السعودي قدرته على استيعاب هذه الخطوة الحضارية ، بالقفز فوق مستوى المحسوبيات والنظرات الضيقة والترتيبات النفعية ، لتظل المصلحة الوطنية هي الهدف الأسمى بإذن الله تعالى.
ولقد أسعدني كثيراً اختيار سمو الأمير الدكتور منصور بن متعب بن عبد العزيز رئيساً للجنة العامة للانتخابات البلدية ، لما عرف عن سموه من كفاءة عالية وفكر مستنير ، ولا سيما أن للجنة دورا حيويا في هذه الانتخابات.
www.dr-abdalelahsaaty.com |