مهما اختلفت لدى الكبار حاضنة المعرفة تجدهم يتناولون تعبيراتهم المختلفة بشيء من الانفرادية، ولك أن تراقب قفزات الحديث للبعض منا، لتلاحظ تكرار مفردة وربطها بما تبقى من الجمل والاستشهاد بها.
لكن الأطفال وحدهم من يضفي على الحديث (زبدة) اللغة الاجتماعية السائدة. وإذا أردت أن تستمع إلى نكهة اللهجات في أي مجتمع فلتأخذها من الأطفال الذين يوصلون لك لبها خالصا وجميلا.
من بين تلك التعابير جملة أو مفردة هي خاصة بنا، ولنا أن نقول إن لكل مجتمع مفرداته وتعبيراته الخاصة، غير أن كلمة (يعني)، هذه الكلمة الطاغية والمهيمنة على معظم آرائنا تدل على حيرة مخزونة، وضبابية واضحة، وعندما تسأل أحد الأطفال: تحب اخوك؟
يجيبك: يعني
تسأله: ليش؟
يرد: لأنه يأخذ ألعابي.
وتسأله: تحب المدرسة؟
يجيب سريعا: يعني
ليش؟
لأنهم يعطونا واجبات (كثير)!
لم تكن هذه الحوارات فقط من تتسيدها (يعني)، وليست (يعني) بمعناها الجلي أية صورة أخرى لا نعرفها، بل إنها أحد مقاسات ال(يعني) كأننا فعلا غير راضين أبدا بما ننطق أو نعبر أو ترانا نرى في بلوغ الرأي السديد الذي يعبر عن حالة كمال بعيدة أو غير راشدة، أو أننا لم نبلغ الحلم حتى نعبر عن معظم الأشياء بحالتها المكتملة.
وليست (يعني) وحدها ما يعبر عن ثقافة الحيرة أو حالة التردد التي تعيشها أجيالنا، كأن التعبير الصريح والواضح ما زال نائياً وغير مقبول في مجتمعات تذوب في حالة عميقة من التمويه الذي يكاد يلغي اعتبارها حتى بعد تجاوز مراحل اكتمال التصور الإنساني والفكري بالكامل.
هناك مفردات غامضة كثيرة تتسيد أحاديثنا، ومنها رموز التعبير عن حالة اجتماعية معاشة، وقد تفاجأ بكثير من الشباب المتعلم والمتوج بثقافة لا بأس بها لا يستطيع أن ينطق كلمة (زوجتي) أمام أهله أو أمام أية حلقة يتواجد بها، بل يشير إلى ذلك رمزا (الأهل)
ذهبت مع الأهل، لدي موعد مع الأهل، فإدخال صفة عامة لتجنب ذكر الزوجة منعا للإحراج أو إعطاء هذا المخلوق الكامل الأهلية صفة اعتبارية كاملة، هو ما يدخل في نطاق الحقوق التي لا نستطيع أن نقول عنها إلا أنها (يعني)!
أما ما بقي دون ذلك فليس له مجال هنا، لأن قائمة أحوالنا العامة وثقافتنا الاجتماعية فيها كثير من الازدواجية، في حين أنها يفترض أن تكون فرصة لتصحيح بعض المفاهيم التي وقعت بين مطرقة التغييب وسندان التقاليد التي لا تمت للتاريخ أو الثقافة الإسلامية بصلة، فقد كان الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام يفخر بحبه لزوجاته وكان يظهر دلاله للبعض منهن، ولم يخف اسم إحداهن أو يشير إليها كجماعة من الأهل والعموم.
عموما، كثيرة هي أحوالنا التي لا نستطيع أن نعبر عنها إلا بكلمة (يعني) كون بعض أمورنا وأحوالنا العامة والخاصة ما زالت تعوم في بركة (يعني)، وهو ما يؤكد أننا سنأخذ وقتا طويلا كي تتجلى رؤيتنا الناضجة وما زلنا نمارس هذه الحيرة بمدلولات رمزية أكثرها يشير إلى أن الحال لم تتجاوز مراحل لا نقول عنها إلا (يعني)!
|