وقع في يدي مجموع يضم بعض أشعار الشاعر العنيزاوي علي بن رشيد الخياط، والمجموع عبارة عن جهد قام به شخص من المتحمسين لشعره، ومما بدا لي أن الذي حاول تسليط الضوء على حياة شاعر شغل النجديين بشعره زمناً، كان متفرداً بعمله هذا ومجتهداً لأن يخرج أو يحفظ شيئاً عن رجل رحل وترك أثر الشجاعة ومحبة الرجال له، وقبل هذا كنت قد قرأت عن الخيّاط في مخطوطة العبيّد، وأن اسمه علي بن عبدالرحمن، لكن الجامع هنا قال: إن الصحة علي بن رشيد لا ابن عبدالرحمن، وقد أورد نسبه إلى أن أوصله إلى جده الأعلى ثويني الثويني، كما رسم الجامع شجرة أسرة الخياط في مجموعه.
كان الخياط رحمه الله محباً إلى درجة العشق لمدينته عنيزة، أيام أن كانت الشجاعة تحكي عن نفسها ويحكي بها الآخرون، حتى لقد خلّد عنيزة وخلّدته هي ببيت من الشعر تتداوله العامة إلى اليوم:
هذي عنيزة ما نبيعه بالزهيد
لا فرّعن البيض نحمي جالها |
وسوف أقف عند كلمة (لا فرّعن) فكلمة (لا) تستعمل عند أهل نجد كثيراً بمعنى (إذا) والتفريع عندهم هو أن تسفر المرأة عن وجهها الذي كانت تغطيه بالحجاب، وهي عادة عند البادية والحاضرة على حد سواء في حالة الحرب فقط، وهم يجعلون بنات علية القوم من الشجعان أو الفرسان أو أصحاب الجاه في مقدمة المحاربين حاسرات الرؤوس لكي يشجعن المقاتل على حماية شرفهن، لأنهن شريفات لا يبين منهن غير الشرف فقط، لذا يكون خلع الحجاب حاثاً على الستر والصون لهن من رجالهن الشرفاء، الذين ينتخون بهن بقول أحدهم: أنا أخو فلانة. أي أنا حافظ شرفها وقيمتها وتاج رأسها.
وعند البادية هناك جمل تركبه بنت علية القوم أو بناتهم، فتكون في الهودج ظاهرة للعيان حتى تحث المقاتلين على حمايتها، ويسمون ذلك ب(العطفة) بكسر العين المهملة وسكون الطاء المهملة أيضاً، وقد يسمون أو يصفون المرأة السافرة في المعركة (جالعة الستر)، أي التي تركت ستارها وتسترها تلك الساعات فقط (تحدثت عن ذلك في كتابي البادية النجدية).
والخياط الذي نتحدث عنه كان من أشجع أهل عنيزة، وقد أصيب وهو في آخر عمره بمرض في قدمه يسمونه (الآكلة) لأنها تأكل اللحم، وأظنها الغرغرينا، فأمر الملك عبدالعزيز رحمه الله بأن يعالج في الكويت آنذاك، فصادف أن لم يجدوا ماء في الصحراء لأن المياه تردها البادية ويبقون عليها بالتناوب للشرب، فمروا باللصافة على رجل من الجبلان من مطير والخياط معهم، فسأل عن الرجل الذي معهم وهو يصيح من ألم رجله، فقالوا: هذا الخياط.
فقال الجبلي: راعي البندق؟ قالوا: نعم. فقال: خيّال صبحا وأنا جبلي، والله لتشرب بعارين راعي البندق أولاً.
فشربوا وملؤوا قربهم وواصلوا السفر.
وبندقية الخيّاط المشهورة بقيت بعد وفاته، ثم أهداها أحد أبنائه إلى الملك سعود وكذا سيفاً من سيوفه كما قال العبيّد في مخطوطته.
ولعل إيرادي لقصته تلك، لأن الذكر الطيّب للرجال يفتح لهم مجالاً لقلوب الرجال الطيبين أيضاً، فهذا الرجل من مطير أعطاهم فرصة ورود الماء سريعاً بدلاً من أن يبقوا منتظرين لمدة أطول لندرة الماء يومها، وذلك لأنه يحب الشجاعة وأهلها.. رحم الله الجميع.
فاكس 2372911
|