وفي ظل هذا العنت والصلف من الظلاميين والمارقين طفح الكيل، وبلغ السيل الزبى، وأعطيت الدنية في الدين، وكاد الواهنون المداهنون أن يخربوا عامر معارفهم بأيديهم. والمذعن للقلم وما يسطِّر، وللسلاح وما يدمِّر وفي إمكانه أن يفل الحديد، ويفند صلف العنيد لا ينفك من تجرع ذل العاجل وعذاب الآجل:
(واحتمال الأذى ورؤية جانيه.. غذاء تضوى به الأجسام)
لقد جمعتني هذه الخلوة في المصيف، بما أرفض من الأفكار، ومن أكره من المفكرين، وذكرتني ب(طه حسين) وب(القصيمي) وبآخرين جاؤوا من بعدهم، يكاد الوهن يشل حركتهم، ويكاد الاختلاس يبدو من بين سطورهم، ف(القصيمي) تحدث عن (المتنبي) حديثاً كأني أراه، وأسمعه، يخرج من أفواه أحياء يدبون على الأرض، يدَّعون أنهم أول من اكتشف عظمة المتنبي في الشاعرية وفي الاسترفاد، ولقد تمر بك جمل وعبارات، تحسب أنك قرأتها من قبل، فإذا تأملتها عرفت من أي المستنقعات هي. و(القصيمي) و(طه حسين) ينقمان على (المتنبي)، ولكل واحد منهما وجهة هو موليها، ولكنهما لم يستبقا الخيرات، وإن كان (طه حسين) أذكى من صاحبه وأقدر على استدعاء الأدلة والبراهين والخداع بالمراوغة الذكية، مستعيناً بطاقات اللغة التي مكن الله له فيها، فكان من ذوي الأساليب الفنية الأخاذة، فيما لم يكن بمقدور (القصيمي) المثري من اللغة إلا التكرار الممل.
وكم كنت حريصاً على استكمال ما ينقص مكتبتي من كتب لمؤلفين معينين أو من كتب تتعلق بقضايا وظواهر ومذاهب وأفكار لها حضورها الأكثر شغبا في كافة المشاهد، ومن ثم ظفرت بما ينقص مكتبتي من كتب الهالك (عبدالله القصيمي)، أو مما هو من باب التعويض عما خرج منها معاراً، ولم يعد، وما أكثر المستعيرين الذين لا يجدون بأساً بالمماطلة، ولا حرجاً من الإنكار، وللعلماء أقوال وأشعار تتعلق بإعارة الكتب، وهم معذورون، فاستنساخ الكتاب أو شراؤه يتطلب جهداً ومالاً لا قبل لهم باحتماله. ومع ما ظفرت به من كتب القصيمي، ظفرت بكتب أخرى في الفكر المعاصر، وهو فكر مضطرب مهدور الجهد في خدمة الغير. لقد تحسرت على مفكرين مهيئين لطرح نظريات عربية تتناغم مع حاجة أمتهم، ولا تجد حرجاً من استثمار المستجدات المنهجية والآلية ثم لا يفرغون لها، وكأن أفكار الغرب ومصطلحاته وسائر شؤونه قصيدة (عمرو بن كلثوم) التي ألهت بني تغلب عن كل مكرمة، والداء العضال الذي تعانيه طائفة من مفكرينا وأدبائنا جهلهم بتراثهم، وعدم تمكنهم من التأصيل لمعارفهم، والتعامل مع الآخر بندية، والتفاعل معه للإفادة والاستفادة. ولما كانت قراءاتي ل(القصيمي) استعادة وتذكراً، فلقد كنت أعرف مراميه وأهدافه وقدرته على التلاعب بالألفاظ، وتقصي المترادفات والجمل المتشابهة، حتى لكأنه ملم كل الإلمام ب(تحويلية) (نعوم تشومسكي) يقلب الجملة، حتى لا يدع تركيباً إلا استدعاه، ولا مرادفاً إلا ساقه. ولقد تقرأ الصفحات الطوال، ثم لا تخرج إلا بمعلومة واحدة، كل ما تحويه الإنكار أو التنكر، يشقق لها العبارات، ولا يشقق المعاني، وفرق كبير بين الإمكانيتين. ف(الجاحظ) يمتلك القدرتين: تشقيق العبارات، وتشقيق المعاني. فيما لا يستطيع (القصيمي) إلا تشقيق العبارات. فإذا تحدث عن أي قضية حام حول حماها، وكأنه مشدود الوثاق برقبته إلى شاخص يلف حوله، بحيث لا يبرح مكانه وإن ظلَّ يركض برجله، وكل ما يملكه الجرأة الوقحة على المقدس، يغرق في التشكيك، ويقطع في الإنكار، ويمعن في الهجاء والسخرية، وذلك لعمر الله أحط ما عرفت من الأخلاق، وأسْفَه ما رأيت من القول، وأسخف ما قرأت من الكتابة، ولست أعجب من شيء عجبي من عدم تمعر وجوه بعض المتابعين لكتاباته، التي لا يشفع لها عقل ولا نقل. وإذا الإيمان ضاع فلا عقل ولا عاطفة ولا إنسانية. وكيف يكون الإنسان بلا إيمان، وهو فطرة الله التي فطر الناس عليها. وأساطين المادية والإلحاد يؤمنون بالوجود المطلق، ولهم تصورهم عن بدء الوجود، و(الله) في نظرهم قوة مطلقة، وموته عند (نيتشه) لا يعني عدمه، وإنما يعني شيئاً آخر، فيما لا يؤمن القصيمي بشيء من ذلك البتة، ولا يحسن توجيه أقوال الفلاسفة، أو لا يريد أن يشغل نفسه بغير الرفض والتمرد والإنكار، والمتعقب لآراء الفلاسفة وعلماء الكلام حول تصور الوجود وموجده، يقف على آراء تحيل على العقل أو على النقل، وقد يمضي المعقول في ظل المنقول، وقد يفترقان، أو يتعارضان، حتى إذا عجز العقل عن التصور وازورَّ عن الإيمان، وقع في المحذور، لأن المرتهن في عالم الشهادة ليس بقادر على استيعاب عالم الغيب، ما لم يعضده الإيمان والتسليم. ولم يكن القصيمي معولاً على عقل ولا على نقل. وإذا كان في الفكر والفلسفة مهرجون، فهو رائدهم، ذلك أن المهرج يقول ويطيل القول، ثم لا يتوفر على دليل نقلي، ولا على برهان عقلي، ولا يحيل إلى نص محكم، ولا يستدعي تجربة علمية، ولا ملاحظة دقيقة على مجريات الأحداث، ومن ثم لا ينفك من اللجاجة الفارغة.
و(القصيمي) الذي يثير بآرائه الاشمئزاز والغثيان، يتولاه من لا خلاق له، ممن استحوذت لوثة المفاهيم على عقولهم. ومن تابع كتاباته التي انهمرت بعد كتابه الفاصل بين الحق والباطل (هذه هي الأغلال)، لا يجد تطوراً في فكره ولا تعقلاً في آرائه، وكيف يتأتى له التطور، وهو لا يملك إلا الرفض، ولك أن تقرأ ما قاله عن (الثوريين) في (عاشق لعار التاريخ) أو ما قاله عن (المتنبي) في (العرب ظاهرة صوتية) أو ما قاله عن خالقه في (الكون يحاكم الإله) لتجد أنه يتداول قاموساً واحداً من الشتائم، ولك أن تتحامل على نفسك وعلى أعصابك، وتقرأ أطرافاً مما قاله في كتابه (الكون يحاكم الإله) لترى أنه لا يفرق بين (الثوري) و(المتنبي) و(الإله). والذين يرصدون أطروحات العلماء والمفكرين يجدونها تحيل إلى النص أو إلى العقل أو تحيل إليهما معاً، ثم يجدونها متماسكة في الآراء والتصورات، محيلة إلى مصادر الحضارات ومرجعياتها. والقصيمي لا يحيل إلى شيء منهما، وتلك خليقة الهدامين الذين لا يوفرون علماً ولا ثقافة، ولا يزودون قارئهم بقاعدة، ولا أصل، ولا منهج. فمن أحال إلى (عالم الشهادة) وحسب، فتفكيره مادي وضعي، ولكنه يوفر معلومات تجريبية عن ظاهر الحياة الدنيا، ومن أحال إلى (عالم الغيب والشهادة) معاً، فهو مفكر إيماني (ميتافيزيقي)، ولكل من الطرفين مرجعيته التي يحيل إليها، ويتعاضد معها، وله منهجه وآليته التي يعرف بها. إذ لا طريق لعالم الغيب إلا الإيمان أولاً، ثم الوحي القطعي الدلالة والثبوت ثانياً، فليس طريق ذلك العلم التجريبي ولا الرصد والمشاهدة. وليست هناك طريق لعالم الشهادة إلا المتابعة والملاحظة والتجريب على حد:- (أنتم أدرى بأمور دنياكم). وما شق الغرب طريقه إلى السنن الكونية إلا بواسطة (المعامل) و(المختبرات) و(المراصد) و(جمع المعلومات) وتحليلها. فالكون له نظامه وسننه، ومن أدرك شيئاً منها سيطر عليه. وليس شرطاً أن يكون المفكر المؤمن بالغيب سالكاً طريق الرشاد، فالطوائف الإسلامية المنحرفة تؤمن بالغيب وبالرسالات، ولكنها تخطئ في التلقي والتأويل، وهي فيما توصلت إليه درجات أو دركات، يؤخذ من قولها ويترك، فتصوف السلوك يختلف عن تصوف الحلول ووحدة الوجود.
ول(القصيمي) إلمامات متعددة، فهو حين يتحدث عن (عالم الشهادة) يسلك طريق مفكري الرفض والتمرد، أما حين يتحدث عن (عالم الغيب) فإنما يسلك طريقاً آخر، قلَّ أن يكون له سلف فيه، وقوام طريقه التهكم والسخرية والإنكار والتساؤل الذي لا يرقب إجابة، فهو تساؤل مجازي. حتى الذين ينكرون (عالم الغيب) لا يمتد إنكارهم إلى الوجود المطلق، وإنما يقتصرون على إنكار الرسالات أو البعث أو غيرهما، معتمدين على الطاقة العقلية، ولهم حججهم العقلية التي يسوقونها دون تطاول. أما (القصيمي) فيعمد إلى الذم والمساءلة أو التطاول، واتهام كل الأطراف: المعبود والعابد والمبلغ. فلا هو شكوكي (ديكارتي) ولا حائر (معري) ولا متأول (باطني)، وإنما هو رافض هدام هجاء متمرد. ومع وضوح ضلاله فإنه عِشْق المتمردين. وهو بمجموع غثائياته يشكل معيناً تكدره دلاء الحداثويين وعشاق الإثارة والاستفزاز، يبيتون ليلهم يقرؤونه، حتى إذا تضلعوا من مائه الآسن، ودنسوا ثيابهم من مستنقعه المتعفن خرجوا إلى الناس بقول يعيش في ظلاله، ويعب من ضلاله. فكان ذلك الاختلاس سبيلاً إلى الحضور، ومغرياً لوسائل الإعلام والنشر لتخطفهم كي تقضي بهم وطر الدعاية والجذب. وما من متمرد على الدين أو متطاول على خالقه إلا وعلى (القصيمي) كفل من مقترفه، وما أكثر ما نقف على فلتات الألسن، وزلات الأقلام من كتبة لا يتوقع من مثلهم مثل ذلك. وبمحاولة التعرف على مصادرهم يتبين أن (القصيمي) وأضرابه هم القدوة السيئة، ولقد تولى الروائيون كبر ذلك، فكان أن شككوا بالثوابت، وترددوا في صدق اليقينيات، ودنسوا المقدس، وأنسنوا الإله، وأحالوا كل ذلك إلى حرية التعبير والتفكير.
وإشكالية المتسطحين الذين يعدون أنفسهم من المفكرين المؤسسين عدم التفريق بين الخطأ العارض للمفكر والانحراف الفكري في المبدأ، وبين من يقرأ القرآن ويفهم معانيه ومقاصده، ويقيم حروفه، ثم لا يقيم حدوده. ولقد سمعت من يقول عن (طه حسين)، وعن (القصيمي) إنهما يحفظان القرآن ويحفِّظانه لمن حولهما من الأولاد. والقضية ليست في المعرفة ولا في الحفظ، ولكنها في الفكر والمنهج، فالمستشرقون كتبوا عن القرآن وعلومه من قراءات وناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه، وأسباب نزول وغيرها عن علم غزير ومتابعة دقيقة، وعرفوا عن لطائف التفسير، والإعجاز البياني والعلمي ما لم يتوفر عليه كثير من علماء المسلمين، ولكنهم فعلوا ذلك للتضليل والتشكيك. وإذا كان (القصيمي) هَّداماً فإن (طه حسين) غربي متفرنس، وفرق كبير بين الاثنين. ولأن (القصيمي) هدام قد طواه النسيان، فإنه لم يعد مطروحاً في المشاهد بمثل غيره من المنتمين. وأعداء الحضارة الإسلامية يستثمرون جهود (المنتمي) و(اللا منتمي) فالأول مبشر بحضارة الغرب، والثاني مخرج من حضارته، وأعداء الإسلام مستفيدون من الحالين، من اللاحق بهم، ومن الخارج على حضارته، والدوائر (الاستعمارية) و(الصهيونية) و(الماسونية) جادة في إذكاء الصراع العسكري والفكري بين أبناء الملة الواحدة، وها هي تجني ثمار مؤامراتها، فمن أشعل الحروب الأهلية والحدودية والطائفية أو باركها أو دعمها أو استغل حالات التوتر والارتياب؟ أليسوا هم الأعداء المتربصين الكامنين ؟!
وحين تقتضي المناسبات استدعاء مفكر عربي أو غربي فليس القصد الشماتة، وإنما القصد أخذ العبرة والاستفادة من الإخفاقات، فالخطأ يكون إيجابياً حين يحملك على التحرف للصواب، والعاقل من وُعِظَ بغيره، ودونه من وعظ بنفسه، وأسوأ الأحوال ألا يتعظ لا بنفسه ولا بغيره.
السؤال الأكثر إلحاحاً والأكثر تحدياً لكل المغمضين على تجاوزات القصيمي،ما الشخص الذي مجَّده القصيمي؟ وما القيم التي يتمسك بها؟ وما الحضارة التي أعجب بها؟ وما الايديولوجية التي ينتمي إليها؟ ولو صدقت (بروتوكولات صهيون) لكان القصيمي واحداً من معاولها.
إن مفكراً هذه خليقته لجدير بأن توزن الكلمات فيه وعنه، فالتعذير والتحذير مسؤوليتان، يحاسب عليهما الإنسان. وحين تصل الأمور إلى المصير لا يحسن الإغماض، ومن وجد فيه ما لم نجد، فليفض علينا مما عنده، فنحن طلاب الحق، وهو ضالتنا، وعليه ألا يحيل إلى القائلين عن القصيمي، وإنما عليه أن يحيل إلى أقوال القصيمي نفسه، ومن قرأ عن القصيمي، فهو تبع لمقروئه، أما الذين اجترحوا قراءته فأولئك الذين يخبرونه، ويعرفون منطوياته، وقليل ما هم، وكم هو الفرق بين أن تقرأ الشيء أو تقرأ عنه، تلك بعض التداعيات، وفي الذاكرة أشياء ترقب وقتها عن مفكرين ومبدعين لقيتهم عياناً أو عبر كتبهم ومن الخير للمشهد الفكري أن نعيد قراءتهم أملاً في إحقاق الحق وإزهاق الباطل، وما أردنا إلا التوفيق بين الأطراف وإصلاح الشأن العربي ما استطعنا .. وما التوفيق إلا بالله.
|