Monday 13th September,200411673العددالأثنين 28 ,رجب 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "محليــات"

دفق قلم دفق قلم
نقد تفكيكيّ
عبدالرحمن صالح العشماوي

يقول الشاعر:


واحبها وتحبني
ويحبُّ ناقتها بعيري

يا له من بيتٍ عجيب! ومن تركيب غريب!، يا لها من كلماتٍ تحتاج إلى معاول النقد الحديث الرائعة للقيام بأجمل عملية نقدية قائمة على تفكيك وتفتيت النص حتى يصبح شظايا بين يدي الناقد الحصيف.
لا يعنينا هنا الشاعر، ولا حياته، ولا عصره، فنحن أمام جسدٍ منفصل، وكيان مستقل سنشرِّحه دون نظر إلى قائله، لا بد أن نميت قائله حتى لا يرانا ونحن نقوم بهذه العملية التفكيكية - الجدير بالذكر أن الشاعر قد مات منذ مئات السنوات - ذلك أفضل لنا، هيا إلى النص.
انظروا إلى الواو (و) ما رأيكم في هذا الشكل العجيب، تأملوا دائرة الواو وذيلها ياله من شكلٍ غريب يشبه (الذنبوح) أو (الذرنوح) على اختلافٍ في اللهجات، والذنابيح هي صغار الضفادع يكون شكلها كالواو، هكذا يكون الإبداع، لماذا جاءت الواو هنا، تأملوها معي جيداً، أليست شبيهة بالضمة؟ قولوا: نعم، إنها شبيهة بالضمة، والفرق بينهما في الحجم، فالواو أكبر من الضمة ثلاث أو أربع مرات، هنا يأتي الإبداع، لماذا الواو هنا؟ إذا نظرنا إلى البيت وجدناه يتكون من جزءين متناسقين، ووجدنا كلمة (الحب) عاملاً مشتركاً بين جزئيه (وأحبها وتحبني ويحب) لقد جاءت الواو ثلاث مرات بعد وقبل كلمات الحب، لماذا يا تُرى؟ هنا يتجلّى الإبداع.
ألم نقل إنَّ الواو تشبه الضمة، أي أنها ضمة كبيرة، ويمكن أن نقول بارتياح: أن الضمة واو صغيرة، يا لها من مقابلة جميلة؟
وما دامت الواو ضمة كبيرة، والضمة واواً صغيرة، فقد ناسب جداً أن تأتي الواو ثلاث مرات مع كلمة الحب المكررة ثلاث مرات.
لماذا، وكيف، أو، كيف ولماذا؟، أليست هنالك علاقة بين الضمِّ والحبِّ، يا له من فضاء فسيح للإبداع!
هيا نفكك هذه الكلمات عن بعضها، يجب علينا أن نلقي بالواو جانباً فما عادت تعنينا، سنأخذ كلمة (أحبّها)، وهنا يتشظَّى أمامنا سؤال إلى ذرَّاتٍ كثيرة تلحُّ علينا قائلة من هذه التي (أحبُّها)؟ نقصد، يحبُّها الشاعر؛ عفواً ليس هذا المقصود لأننا قد ذبحنا الشاعر من الوريد إلى الوريد، إذن من هي تلك التي وقع عليها الحب، نعم وقع عليها الحبُّ من أيِّ أحدٍ من البشر، مَن هي؟ أيضاً، الأمر لا يعنينا، المهم أنَّ حباً قد وقع سواء أكان على غزال أم على غورلا، أم على وحيد القرن، أو وحيد الخرطوم، كل ذلك ليس مهماً، المهم أن حباً قد وقع عليها، ولا يهمنا كيف وقع، هل وقع كما تقع الفراشة الخفيفة الظريفة، أم كما يقع الفيل الكبير، الحب وقع عليها وهذا يكفي.
تأملوا معي (ها) خذوها لوحدها (أحب... ها) إنَّ الألف في (ها) تدلُّ على الفضاء البعيد، ربما تكون فتاةً عربية, أو صينية، أو يابانية، بل ما الذي يمنع أن تكون أمريكية مدنيّة، أو مجنّدة أمريكية تطفئ بقايا سيجارها في جسد أسير عراقي أو أسيرة عراقية، بل ما الذي يمنع أن تكون قد وقع عليها الحبُّ في البيت الشعري السابق مجنّدة يهودية حاقدة في سجن من سجون المحتل اليهودي؟ كل ذلك لا يعنينا، إنما يعنينا هذه الألف الواقفة بعد الهاء في كلمة (ها) حينما نفكك الكلمة (أحبها) لتصبح (أحب.... ها)، يا له من فضاء فسيح للإبداع.
خذوا معي الكلمات الثلاث (أحبها) و(تحبني) و(يحبُّ)، تأملوا أشكالها البديعة هيّا نفكك حروفها، ودعونا من وسائل النقد العربي التقليدية، يمكن أن نكّون من حروفها كلمات أخرى، فلو أخذنا - مثلاً - حرف الحاء والباء من الأولى، وحرف الحاء والباء، من الثانية لتكونت عندنا كلمة (حبحب)، يا لها من كلمة رائعة، الحبحبُ لمن لا يعرفه هو (الجِحُّ) و(الجِحُّ) لمن لا يعرفه هو البطّيخ، إنها فاكهة لذيذة، لونها من الداخل هو اللون الأحمر، يا له من إبداع، ويا لها من علاقة عجيبة بين الحبحب، والحبِّ، فمكان الحبّ (القلب) والقلب يضخُّ الدم الأحمر، ولون الحبحب أحمر، وشكله دائري قريب من شكل القلب، أرأيتم كيف أوصلنا تفكيك النص وتشريحه إلى هذه العلاقات والسياقات الحداثية الجديدة، ولا بد لنا من نقّاد التفكيك بهذه المناسبة، أن نعترض على اليابانيين الذين انتجوا لنا في مزارعهم حبحباً مربّعاً، لأن ذلك يبعّد العلاقة بين هذه الفاكهة الشهيّة وبين الحبّ، ويجني على نقدنا التفكيكي.
هيا نفكك ونشرح النص أكثر وأكثر، نأخذ الباء والراء من كلمة (بعيري) والتاء والقاف من كلمة (ناقتها) ونضيف من عندنا لاماً لوزن المعادلة مع الهاء من كلمة (نحبها)، أرأيتم كيف يكون فضاء الإبداع، لقد أصبح عندنا كلمة (برتقالة)، هنا تتجلّى العلاقة الهائلة المروّعة العجيبة بين الحب في البيت الشعري وبين أغنية (البرتقالة) الموغلة في هبوطها وانحدارها وسقوطها، التي أكّدت سقوط الفضائيات العربية.
عذراً قارئي الكريم وقارئتي الكريمة، فهذا النوع المتهافت من النقد منتشر في كثيرٍ من دراسات نقّاد العرب التائهين في عتمة هذا العصر، عذراً إذا كنت قد أزعجتكم، وجربت هنا حظّي في النقد التفكيكي، فهل أصلح ناقداً تفكيكياً؟
إشارة
شَرُّ البليَّة ما يُضحك


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved