ثنت كل محاولات إقناعها بالزواج بعد وفاة زوجها.. عاكفة على تربية ابنها الوحيد.. منعزلة عن مجالس النساء وثرثرتهن بأمور الزينة...
تراقب ابنها ينمو كل يوم بعينين غاب بريقهما بسبب آلة الخياطة.
اهتمت به، وأهملت نفسها حتى أصبح شاباً يستعد لإكمال دراسته في المدينة...
لم تفكر بهذا اليوم الحلو المر...
أخذت ترتب ملابسه وتعد حقائبه، وهي توصيه بطاعة الله، وغض البصر.. التحق بكلية الطب... وعرف باجتهاده، واستقامته.
بعد عدة سنوات أنهى دراسته، ثم عاد إلى القرية حاملاً وثيقة التخرج...
مما جعل أهل القرية يحتفلون، ويفتخرون به أمام ضيوفهم من القرى المجاورة...
ظلوا طوال الليل يشكون أمراضهم المزمنة له.
بينما أخذت عينا الأم تبحث له عن عروس، عندما عادا إلى المنزل فاتحته الأم بأمر الزواج...
ابتسم، وأبلغها برغبته بالزواج من زميلته. لم تمانع الأم رغم حزنها...
بعد اسبوع سافر الابن للمدينة للمباشرة في عمله في المستشفى العام،
وبعد فترة ليست بطويلة تزوج، ثم ذهب للقرية ليأخذ أمه إلى منزله الجديد في المدينة.
عندما وصلا للمنزل أطلعها على غرفتها التي تطل على الحديقة التي غرس فيها نخلاً كثيراً... جلست في بهو المنزل، وذهب ينادي زوجته...
في أول لقاء لها بالأم أشاحت بوجهها وسلمت على مضض ونظرت إليها بدونية وغطرسة أهلاً أهلاً...
عندما خلت بزوجها قالت له:
لم أتوقع ان تكون أمك بهذا الشكل؟
- ما هذا الكلام؟!
- ألم تر تجاعيد وجهها؟
ألم تر شقوق يديها الكثيرة؟
ألم تسمع لهجتها؟ تحتاج لمترجم!
هل ستظهر معنا أمام الناس؟
أنا لا أقبل أن تشاطرني الحياة في هذا المنزل دعها تعود إلى قريتها بين الأحجار والأشجار فلا مكان لها في المدينة بين الجدران النظيفة والشوارع الواسعة...
كانت الأم تسمع.. صدمها الموقف فلم تنبس ببنت شفة، ولكنها أسرعت إلى غرفتها... أغلقت الباب وألقت بنفسها على السرير وأجهشت في بكاء، ثم ما لبثت أن غابت عن الوجود في إغماءة طويلة... دخل إلى الغرفة فأذهله المشهد، ظن أنها فارقت الحياة ولكنه أصغى إلى دقات قلبها الواهنة فأسرع بها إلى المستشفى.. وهناك أفاقت من غيبوبتها.. وحينما رأته غطت وجهها بكفيها وانخرطت في البكاء ثانية... كان كمن أضاع شيئاً ثميناً فراح ينقب في ذاكرته تائهاً فسمعها تهذي بكلمات برقت أمامه فأضاءت أمامه الموقف برمته... قبلها على رأسها ويديها وارتمى على صدرها...
لا عليك يا أمي فأنت الأصل ونحن الفرع لم أنس تلك الأيام الماضية سوف أحضرها لكي تتأسف إليك...
لا يا ولدي فهي محقة...
للمدينة أهلها وللقرية أهلها...
أريد العيش بقية حياتي بين أهلي وجاراتي، أنظر لزرقة السماء وخضرة الأرض لا يحد من بصري مبنى أو جدار، عد بي إلى القرية.
|