الصحافة فن ورسالة قبل أن تكون قيماً مادية بحتة محضة، بل هي منبر الشعب الحقيقي الذي يخاطب من خلاله، وهي التي تسهم في توجيه سلوكياته، وتحفيز قيمه ومبادئه، وإرساء أهدافه، ويسميها البعض: (مدرسة الشعب أو الجمهور) وهي وحدها القادرة على ملكة جذب الرأي العام نحوها ونحو ما تطرحه من رأي وفكر ومبدأ، رأي هادف، وفكر نيّر، ومبدأ بديع خلاق، وهي منبر الأطروحات الفكرية، ومنشأ الأفكار البناءة، وهي في صميم هدفها معول بناء ورقي وسمو، لا معول هدم وجمود وتحجّر، والصحافة علم له اصول ومبادئ وقواعد، وللصحافة فنون متعددة متباينة المناحي والاتجاهات والأهداف، ولكل فن من هذه الفنون أهميته ومجاله، ويتميز التحقيق الصحفي والذي نحن بصدد الحديث عنه بأهمية خاصة، كما يمكن تمييزه عن الأنواع الصحفية الأخرى، ونرى مدى أهمية وضخامة التحقيق كنوع صحفي مستقل ومتميز، حيث يتضمن التحقيق عناصر الخبر والتعليق والمقال والحديث والتقرير والريبورتاج والدراسة، ولكنه يستوعب هذه العناصر كافة، ويهضمها ويتمثلها، ليشكل لنفسه بذلك طابعاً خاصاً، وشخصية متميزة.
وحتى تنمو موهبة التحقيق الصحفي الجيدة، على الممارس لهذه المهنة أن يتحرى مواطن الابداع الكامنة في نفسه ويغذّيها. ويقول أحد الصحفيين الموهوبين:(لا تظن أن أحداً يمكنه أن يجعل منك كاتباً، إن عليك أن تمهد نفسك لذلك)، ولله درُّ هذا الصحفي الموهوب، فما الذي جعل علامة الجزيرة حمد الجاسر -عليه رحمة الله- رائداً من رواد الصحافة في تاريخ المملكة المعاصر؟ وما الذي جعل الأديب الراحل عباس محمود العقاد في صغره يعشق مهنة الصحافة، ويرسم هذا العشق في تخطيط وتقنين صحيفة مصغرة يكتبها بيده؟ إن هو إلا عامل الإرادة والصمود والطموح والعصامية:
نفس عصام سوّدت عصاماً
وعلّمته الكرّ والإقداما
وصيّرته بطلاً هماماً
حتى علا وجاوز الأقواما |
ومن جانب آخر يبرز عامل عشق المهنة وحبها وبذل ما في الطاقات والوسع والجهد، ثم في كلمة الكاتب الطريفة لفتة مهمة إلى ركيزة أساسية وهي: (إنَّ عليك أن تمهّد نفسك لذلك) وهذا ما يصفه التربويون وعلماء النفس والذات ب(التعليم الذاتي، أو التطوير الذاتي) دون تطويق الذات بالاعتماد على أحد ما اعتماداً كاملاً مع لفت النظر إلى اثراء الذات بالاستفادة من خبرات الآخرين وتجاربهم، وليكن شعاره البدء من حيث انتهى الآخرون، لا من حيث بدؤوا، ولكي أصنع محققا صحفيا موهوبا يجيد فن التحقيق الصحفي هدفا وغاية ورسالة، فلابد من الموهبة، والصحافة هي المهنة الوحيدة التي يستطيع ممارستها غير المتخصصين والمهنيين فيها، فالطبيب لا يمكنه مزاولة مهنة الطب بغير أن يكون متخرجا من كلية الطب دراسة أكاديمية، وبحثا علميا، وممارسة عملية، وأما مهنة الصحافة فمن يمارسها لابد أن يكون موهوبا ومتحمسا ومصحوبا بعشق المهنة حبا وغراما وهياما بشكل لا يُحد، وبمستوى لا يُتخيل، وإذا سعى الصحفي الى تناول فكرة التحقيق الصحفي دون ابداع وبحث عن مكامن التميز، فلن تكون المحصلة الا تحقيقات صحفية جامدة رتيبة تدور في موضوعات متكررة، وحلقات مفرغة، وبوتقات قاتلة، وبالتالي فهي رصد آلي بحت لمعلومات وحقائق تم جمعها من هنا وهناك، ويعتبر فن التحقيق الصحفي من أبرز معالم الصحافة في عصرنا الحاضر على العموم، وهو المحك الدقيق الذي يميز الملكة الصحفية بين صحيفة وأخرى، ويمتاز بعمقه وتناوله لمختلف جوانب الموضوع الواحد وفرعياته، ولذا يتوجه هذا البحث على هواة الصحافة وعشاقها ومحبيها، وإلى الذين يعتقدون بل يؤمنون أن لديهم حسا صحفيا، وملكة فنية، يرغبون أشد الرغبة وأحرها في ممارستها وتطويرها والابداع فيها.
ولم تغفل لغتنا العربية الثرّة مفهوم لفظة (التحقيق) من نصيب وافر، وسهم نافذ، وورد في معاجم اللغة الأساسية الاشارة الى مادة (حقق)، حيث يقول عنها اللغويون الأفذاذ: (حقّ الله الأمر حقاً وأثبته وأوجبه) ويقول الحق تبارك وتعالى في محكم تنزيله وعظيم بيانه: {وَيُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ}، ويقول الكسائي وهو عالم من علماء اللغة البارزين، وبحر لا يدرك قعره: (حققت ظنّه مثل حققته، وأنشد:
فبذلتَ مالَك لي وجُدت به
وحقّقتَ ظني ثم لم تخبِ |
إذاً حققت الأمر وأحققته كنت على يقين منه، وهكذا تظهرنا الدلالة اللغوية لكلمة (التحقيق) على أنها تسعى إلى (اليقين) من الأمور، وإلى الوقوف على (حقيقة الخبر) ومن هنا يمكن تعريف فن التحقيق الصحفي بما يلي: (هو الاداة الصحفية التي تشرح وتفسر وتبحث في الأسباب والعوامل الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية أو الفكرية التي تكمن وراء الخبر أو القضية أو المشكلة أو الفكرة أو الظاهرة التي يدور حولها التحقيق) ويمكن تعريفه بالتالي: (هو فن يقوم على التفسير الاجتماعي للأحداث وللأشخاص الذين اشتركوا في تلك الأحداث).
وبهذا يعتبر فن التحقيق الصحفي واحداً من الفنون الصحفية الاخبارية البالغة الأهمية في الصحافة المعاصرة.
ويقوم التحقيق الصحفي أساساً على تقديم جواب شامل وعميق وواف على السؤال الذي يبدأ عادة بأداتين من أدوات الاستفهام وهما: (لماذا وكيف) وبالتالي فهو عبارة عن رؤية ومعالجة واسعة وشاملة وعميقة للظاهرة أو الواقعة أو المشكلة، ولذا فإن الطابع الموضوعي والتحليلي للقضايا والمشاكل والظواهر والتطورات هو السمة الأساسية للتحقيق الصحفي.
وهناك عوامل بارزة أدت إلى ظهور وتطور التحقيق الصحفي ومنها:
- ازدياد الطابع المعقّد لكثير من الاحداث والقضايا الراهنة، فرض ضرورة شرحها وتقديمها لوسائل الاعلام بطريقة صحفية، وخاصة بعد أن أصبحت هذه الوسائل مصدراً فكرياً يومياً للمواطن.
- فرض ارتفاع المستوى الثقافي والتعليمي للقارئ المعاصر ان تتعمق الصحافة في بحث الظواهر والمشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية وغيرها، وذلك لأن القارئ الجديد المتعلم والمثقف أصبح ولمجموعة كبيرة من الأسباب الاعلامية والاجتماعية والفكرية بحاجة الى جهد فكري مكثف وإلى اسلوب صحفي مقنع، من أجل الوصول إليه واقناعه.
- إن السعي الدائب للصحف المختلفة والمتنافسة من أجل الوصول الى القارئ بقصد التأثير عليه واقناعه، فرض أيضا على الصحافة المعاصرة الا تكتفي بتقديم الأخبار، وعرض الوقائع، أو التعليق عليها بسرعة، وبقصد تأكيد المواقف والاتجاهات، بل فرض عليها أن تغوص عميقاً وراء الاسباب، وأن تجهد نفسها في البحث والدراسة والتنقيب، ليس فقط بقصد تشخيص المشكلة، بل أساسا بهدف تحليلها وتقديم حلول لها.
- بالرغم من تعقد الحياة الحديثة، وازدياد وتائر السرعة فيها، فإن ثمة نسبة كبيرة من القراء، وخاصة في مجال اهتمامهم واختصاصهم وقيمهم ومثلهم تريد ان تعرف بقدر من العمق والشمولية الكثير من القضايا والظواهر التي تهمها.
- إن المقدرة التأثيرية والاقناعية والتنظيمية وحتى الدعائية التي يتمتع بها التحقيق الصحفي، دفعت جميع الصحف الى استخدامه.
- ساهم ازدهار المجلات العامة والمتخصصة، وخاصة الاسبوعية منها، في تطور وانتشار استخدام التحقيق الصحفي، وذلك نظراً لأن المجلة، وبحكم دوريتها، تكون أكثر مقدرة على متابعة ومعالجة قضية معينة بشكل أعمق وأشمل.
- إن ظهور التلفزيون والاذاعة وانتشارهما الواسع، وخصائصهما التقنية، جعلهما أقدر وسيلتين إعلاميتين في مجال تقديم الوقائع بأقصى سرعة ممكنة، هذه الحقيقة دفعت الصحافة الى أن تبحث عن مجال آخر لمواجهة منافسة الاذاعة والتلفزيون، وقد كان مجال التعمق في تقديم الوقائع والظواهر والتطورات من خلال التحقيق الصحفي هو أحد هذه المجالات التي لا تستطيع الاذاعة، كما لا يستطيع التلفزيون منافسة الصحافة فيها، وذلك نظراً لقوة الكلمة المكتوبة، ومقدرتها على المعالجة العميقة والشاملة بسبب نوعية جمهورها.
- ازدياد الصفة العلمية والموضوعية لعصرنا، وكون القارئ المعاصر أكثر واقعية وعلمية وعقلانية، وعلى هذا الأساس أصبحت الصحافة الحديثة أكثر وضوحاً، وأكثر تحديداً وبالتالي أكثر بعداً عن العموميات والانشاء والخطابات والشعارات وفي هذا السياق كان لابد أن يظهر ويزدهر النوع الصحفي القادر على أن يستجيب لهذه المتغيرات الحادثة في أوساط القراء وفي مجال الصحافة عموماً.
والسؤال الذي يطرح نفسه بثبات، وله وزن وثقل هو:
*ما هي الوظائف التي يستطيع التحقيق الصحفي أن يتمكن من تحقيقها وإنجازها؟
إن الوظائف التي يستطيع التحقيق الصحفي القيام بها كثيرة ومنها:
- أن الدور الفعّال الذي يقوم به التحقيق الصحفي يدفع الصحيفة الى أن تقوم بوظائفها الاساسية في الدعاية والتحريض والتنظيم أو في التوجيه والارشاد والتثقيف والتنشئة الاجتماعية وذلك نظراً لأن التحقيق الصحفي يعتبر أداة فعالة لتوجيه القارئ أزاء قضية معينة، وجعله يفهمها بقدر من الشمولية والعمق، ونظراً لأن التحقيق لا يكتفي بالعرض والتشخيص بل يدعو أيضا الى ضرورة المبادرة.
- الكتلة الأساسية لجمهور التحقيق الصحفي هي الطبقة الوسطى العريقة في المجتمع المعاصر، وكذلك القارئ المتوسط الثقافة والاختصاص، والذي يشكل الشريحة الأكبر في جمهور القراء، لذا أصبح التحقيق الصحفي وهو يقوم بمهمة شرح وتفسير وتحليل المشاكل والظواهر، وجعلها في متناول هذه الكتلة الضخمة من الجمهور، قوة فكرية فعّالة، تحولت بالممارسة الى قوة مادية، يحسب حسابها في كل مجتمع وفي كل مرحلة.
- يستطيع التحقيق الصحفي أن يقوم بمهمة رصد الوقائع والأحداث والتطورات في مختلف مجالات الحياة في المجتمع ومعالجتها وتقديمها، وليس كجزر منعزلة، أو كنشاطات وفعاليات مستقلة بل كعملية معقدة ومتعددة الأسباب، وذات أبعاد تاريخية اجتماعية اقتصادية ثقافية، بمعنى تقديم رؤية علمية متكاملة، وبأسلوب ولغة ولهجة عملية وقريبة من فهم ومتناول جمهور القراء.
- يعتبر التحقيق الصحفي من أكثر الأنواع الصحفية مقدرة على دراسة التجارب بعقلانية وموضوعية ليس ليمدح ويطري، بل ليكتشف الأسباب التي جعلت هذا الايجابي ممكنا، كما يستطيع أن يدرس التجارب السلبية، ليس بقصد التشهير أو التهديم، بل بقصد تحديد الاسباب التي أدت إلى بروز واستفحال هذا السلبي ثم ما هي الطرق الكفيلة بالتغلب عليه.
والحقيقة الهامة التي يجب أن يطلع عليها هواة التحقيق الصحفي هي أن هذا الفن ينبع من طبيعة عمل الصحفي في ملاحقة الأحداث التي تحتاج الى تحقيق لبعض جوانبها الخفية والصحفي كما يقول (جوبار): (قد يصنع الحدث بنفسه) دون أن يحدّ نفسه بما يحدث كأن يثير بعض القضايا الكبرى اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية، والتحقيق الذي يعالج موضوع الساعة، هو ذلك النوع الصحفي الذي يضفي وجوده قيمة خاصة على الصحيفة لكن غيابه يسيء إلى مركزها الى حد كبير.
المراجع
1- الأساليب الفنية في التحرير الصحفي - تأليف: د. عبدالعزيز شرف، الناشر: دار قباء للطباعة والنشر، تاريخ النشر 2000م.
2- كيف تصبح صحفياً موهوباً؟ تأليف: محمد بن عبدالله النذير - الدار الصولتية للتربية، الطبعة الأولى عام 1417هـ.
3- مدخل إلى الصحافة -نظرية وممارسة، تأليف: د. أديب خضور والكتاب من نشر مؤلف الكتاب، وطبعة الكتاب الثانية دمشق 2000م.
عنوان المراسلة: - ص.ب 54753 - الرياض 11524