مؤلم أن يجد المرء نفسه عرضة للجراح كلما اختفى منها واحد، أو كاد يختفي، جدَّ آخر. ومؤلم للجماعة، أو الأمة، أن تجد نفسها لا تخرج من نكبة، أو توشك أن تخرج منها، إلا وقد حلَّت بها نكبة أخرى.
ومن الواضح أن أمتنا العربية المسلمة - في عصرها الحديث بالذات - مبتلاة أشد الابتلاء. فأكثر أقطارها عانت من الاستعمار الغربي لها ما عانت من ويلات الاستعباد والإذلال، ولم تتحرر من ذلك الاستعمار المستعبد المذل إلا بتضحيات فادحة. لكن ذلك التحرر - وإن رفرفت له بهجة آنية - لم تمر عليه مدة طويلة إلا وقد شابه ما شابه، إذ عاد الاستعمار بأثواب متعددة الألوان وفي مجالات مختلفة، وإذ وصلت إلى الحكم شخصيات، أو جماعات، اتخذت إذلال الشعوب لها منهجاً، واعتبرت ثرواتها العامة ملكاً خاصاً بها؛ مدَّعية أن حكمها هو الأمثل؛ فكراً وتطبيقاً. ومن هنا كثر أولئك الذين يردِّدون مع الشاعر العربي الحكيم قوله:
ربَّ يومٍ بكيت منه فلما
صرت في غيره بكيت عليه |
الجرح الفلسطيني، أو نكبة أمتنا الكبرى في فلسطين، استعمار يفوق كل أنواع الاستعمار الغربي الذي عانت منه هذه الأمة؛ فداحة وخطورة. فهو استعمار استيطاني قائم على أساس إحلال مغتصبين قادمين من أنحاء العالم محل شعب متجذر في أرضه عبر القرون والأجيال. وما ارتكبه الصهاينة - وما زالوا يرتكبونه - من جرائم بحق الفلسطينيين؛ إنساناً وأرضاً وتراثاً، أمر واضح كل الوضوح. وحرب الإبادة المرتكبة الآن من قبل أولئك الصهاينة - بتأييد ودعم من المتصهينين الأمريكيين، لا يتوقع - حسب مجريات الأمور الحاضرة - إلا أن تزيد شراسة وشناعة. ولا يتوقع، أيضاً، في ظل الأوضاع السائدة، داخلياً وخارجياً، إلا حدوث الأسوأ والأمر. ومع أن نكبة فلسطين هي الأعظم فداحة وخطورة فإن الحديث في هذه المقالة محصور في أمر العراق: ماضيها المرّ وحاضرها الأمرّ.
في الربع الأول من القرن العشرين احتلت بريطانيا العظمى حينذاك، متمثلة في تصرفها للاستعمار الغربي، بلاد الرافدين، مدعية تحريرها من قبضة الحكم العثماني. وما نال الشعب العراقي استقلاله عن الحكم البريطاني بدون تضحيات. وكان أن أصبح المتحكمون في أموره أناساً من أبنائه، لكنهم - في الغالب - كانوا ممن فضلوا مسايرة تلك الدولة التي استعمرت بلادهم. بل رأوا، أحياناً، تنفيذ رغباتها، ونظروا إليها على أساس أنها الحامية لهم من الأخطار الداخلية والخارجية. وفي ظل أولئك المتحكمين اندلع التمرد الكردي على الحكومة المركزية. وتزعَّم ذلك التمرد الملاَّ مصطفى البرزاني. لكن لأن تلك الحكومة كانت غربية الولاء دائرة في فلك السياسة البريطانية بدرجة واضحة لم تقف أمامها أي عقبة في سحق التمرد الكردي. وكان أبرز من قام بسحقه وزير الداخلية العراقي، سعيد قزَّاز، الذي كان كردياً. واضطر البرزاني إلى الهروب واللجوء إلى الاتحاد السوفييتي حيث ظل هناك حتى ثورة الرابع عشر من تموز سنة 1958م بقيادة عبد الكريم قاسم. فعاد إلى وطنه، ورمى بثقله - رداً لجميل السوفييت الذين قبلوه لاجئاً لديهم - مع الشيوعيين العراقيين الذين أصبحت لهم الكلمة الأولى في العراق، والذين كان من وجوه نشاطهم البارزة الشنيعة سحل من رأوه معارضاً لفكرهم أو شكَّوا في ولائه لهم. وبلغ من انسياق عدد من كبار الشعراء أن أبدوا منهج السحل وحثوا على البطش. فالجواهري - مثلاً - كان يحث الزعيم عبد الكريم على أن يمسك بخناق معارضيه، ويشد الحبل حول أعناقهم. والبياتي يتوعد في أن يجعل من جماجمهم منافض للسجاير. أما بحر العلوم فكان يرغي ويزبد في ساحة محكمة المهداوي، مشيراً إلى توقعه وأمله في أن ينتهي حكم رئيس الجمهورية العربية المتحدة حينذاك بسحب رأسه:
اصبر على رأس فرعونٍ تجده غداً
بحبل جلَّق أو بغداد منسحباً |
وفي عام 1963م أطيح بالنظام، الذي ارتكب في ظله الشيوعيون العراقيون ما ارتكبوا من جرائم البطش. لكن ما لبث أن مارس الذين أطاحوا بذلك النظام أنواعاً من الثأر الفظيع. وما إن تنفس العراقيون الصعداء مدة قصيرة في عهد الرئيس عبدالرحمن عارف، الذي أحسن صنعاً بجعل أمور الدولة الكبيرة في يد رئيس وزرائه العظيم عبدالرحمن البزَّاز، حتى عادت المرارة إليهم، وهي المرارة التي بلغت أشد درجاتها بعد أن سيطر على مقاليد الأمور صدام حسين. والكوارث التي حلَّت بهم - وبأمتهم من خلفهم - نتيجة سياسته لا تخفى على أحد.
وبعد اندحار صدام في الكويت، وانسحاب من بقي من قواته المهزومة إلى العراق، عاود الأكراد تمرُّدهم في شمال البلاد، وتمرَّدت فئات من الشيعة في جنوبها. وكان هدف الأكراد الانفصالي النزعة واضحاً منذ العهد الملكي في العراق.
ورأت أمريكا، التي أصبحت المهيمنة حقيقة على المنطقة، أن حظرها طيران صدام فوق المناطق الكردية المتمردة كافٍ وقتها لإعطاء الأكراد فرصة تقوية تمردهم وتكريسه. أما تمرد الفئات الشيعية في الجنوب فإن أمريكا لم تر من مصلحتها حينذاك أن ينتصر حذراً من تكوُّن قاعدة شيعية عريضة في منطقة بالغة الحساسية لديها. وانضم إلى هذا ارتكاب الفئات المتمردة جرائم مرفوضة عندما سيطرت على مناطق من البصرة. فأصبح كل ذلك سلاحاً في يد صدام لإخماد التمرد. وحاكم مثله - في ظل مثل تلك الظروف - لا يستغرب أن يمارس أشد أنواع القسوة. وربما كان أكثر من رأى العالم من مقابر جماعية عائداً إلى تلك الحوادث.
وأعقب تلك النكبات المريرة عشر سنوات عجاف قاسى خلالها الشعب العراقي ما قاسى من ويلات الحصار الذي فرض على دولته. ثم أصبحت الظروف في المنطقة وفي العالم مناسبة لأمريكا المتجبَّرة لتحتل العراق، فاحتلته. ولا تسل عن المبررات، فما قالته القوة العظمى كان كذباً، لكن القوي يكذب، ولا يملك الضعفاء إلا إعلان تصديقهم بما يقول. فماذا كانت نتيجة الاحتلال؟
أصبح حاضر العراق أمرّ من ماضيه.. فقد سيادته الوطنية بهذا الاحتلال الغاشم، الذي ما زال من دأبوا على محاولة طمس الحقائق؛ وبخاصة بعض الكتاب من الخليج، يسمّونه تحريراً. والله أعلم متى ستعود السيادة الحقيقية لذلك القطر. ونصَّب المحتل، لكن يدير شؤون مؤسساتهم حقيقة مستشارون أمريكيون عيّنهم بريمر قبل مغادرته العراق تاركاً مواصلة تنفيذ المهمة الكبير لخلفه السفير ذي السمعة المعروفة في مناطق من العالم. ودُمّر الكثير من البنية الأساسية المدنية التي لم تدمَّر عام 1991م، كما قضي على البنية العسكرية بحل قوات الجيش والأمن، وبيع المعدات العسكرية خردة بعد تحطيمها.. وقتلت قوات الاحتلال بمختلف وسائل عسكريتها المتعجرفة المتخذة أسلوب الصهاينة المغتصبين لفلسطين قدوة لها عشرات الآلاف من المواطنين؛ شيوخاً وشباباً وأطفالاً. وفي مقالة السير ناونسند التي نشرها في الحياة 15-7-1425هـ بعنوان: (إسرائيل تدرِّب جنوداً أمريكيين) تفصيل عن هذا الموضوع.
وما زالت جرائم المحتل تتوالى ضد المواطنين؛ لا سيما في الفلوجة التي يتكون معظم سكانها من العرب السنة، الذين لم يقف أمثالهم في الوطن العربي معهم موقفاً يمكن أن يخفف من فواجعهم.
أما قتل علماء العراق.. وأما نهب تراثه.. وأما تدمير آثاره.. إلى غير ذلك من الكوارث الفادحة فأمور تكلَّم عنها الكثيرون بمن فيهم أناس شرفاء من بلاد المحتلين ذاتها. كل ذلك حاضر أمرُّ من الماضي. ومن أمرِّ ما في هذا الحاضر تمكن المحتل من جعل أبناء العراق يضرب بعضهم بعضاً خدمة لأهدافه الشريرة، كما حدث عندما استخدم البشماركة الأكراد في ضرب المقاومة المشروعة لأهل الفلوجة الكرام، وتمكنه من جعل المرجعية الشيعية العليا تفتَّ في عضد من راحوا يقاومون المحتل من فئة الشيعة نفسها.
أعان الله شعب العراق على نكباته، وأخذ بيده للتخلص منها، وألهمه الرشاد حتى لا يكون أداة في يد عدوه المحتل، الذي إن نجح في تحقيق مآربه في ذلك القطر فإنه سيسارع إلى تكرار تجربته في أقطار أخرى؛ عربية إسلامية أو إسلامية غير عربية.
|