مرت الحضارة الإنسانية بثورتين حضاريتين رئيسيتين: أولاهما: يوم اكتشف الإنسان الأبجدية، واستطاع أن يقسِّم (الأصوات) إلى كلمات، والكلمات إلى حروف تُكتب، فصار بإمكانه منذ ذلك الحين أن يكتب تاريخه وتجاربه الحضارية للأجيال القادمة، وأن يُورِثَ (المعلومة) وأن يبدأ مرحلة التدوين وتراكم المعرفة الحضارية الإنسانية. الثورة الثانية التي توازي في أهميتها اكتشاف الكتابة هي المرحلة التي نعاصر بداياتها الآن، ولا ندري إلى أين ستصل في إنجازاتها ببني البشر، وهي مرحلة (الإنترنت) أو عصر ثورة المعلومات.
الإنترنت معرفياً ألغى الحدود، واختصر المسافات بين الأمم على الأرض، كما نسف كل تلك الأسوار العالية التي صنعها الإنسان، وغذتها الأيديولوجيا، لعزل البشر بعضهم عن البعض الآخر.
لقد حققت ثورة تدفق المعلومات، والتواصل المعرفي التكنولوجي بين أمم الأرض، ما جعل من المجتمع الإنساني اليوم مجتمعاً واحداً تقريباً وفي ظني أن مجتمع الغد سيصبح مجتمعاً (عالمياً) بصورة أكثر نمطية، لا تكاد تلمح الفروق بين أفراده. والسؤال الذي يفرضه هذا السياق: هل نحن نتعامل مع هذا التغير التاريخي في العلاقات بين الأمم برؤى واضحة، أم أننا مازلنا نعيش بمنطق الأمس، غير آبهين بهذه الحقائق، ولا مستعدين لمواكبة مثل هذه التغيرات، وكأن شيئاً لم يتغير ولم يتبدل؟!
جال في ذهني هذا السؤال وأنا أقرأ في أحد منتديات الإنترنت الشهيرة، وذات الصبغة الإسلامية، أن أحد (الزهاد) ممن يعيش هو ومجموعة من أقرانه قرب مدينة بريدة في المملكة، قد فرض على نفسه ألا يستفيد من المنجز البشري التكنولوجي إذا كان من مخترعات (الكفار)، فهو-مثلاً- يصرُّّ على أن يمتطي الخيل والحمير والبغال ولا يركب السيارة، وان لا تطأ قدماه الأسفلت بحجة انه منتج لم يتأكد بعد من حل أو حرمة أن يطأه في مجيئه وذهابه!. وهو ومجموعته حتى اليوم يعيشون في بيوت طينية مثلما كانت بيوت السلف، ويأكلون مما يزرعون بطرق بدائية، تماماً كما كان أجدادهم يفعلون. كما أنهم يعيشون من دون كهرباء، ودون أن يستعملوا في حياتهم من الوسائل المعيشية غير ما كان يستعمله (السلف الصالح) أو بالتحديد (مجتمع المدينة) زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمن الخلفاء الراشدين!.
وليس غريباً أن نجد مثل هذه الكائنات البشرية بيننا، فمثل هذه الأنماط المتزمتة ليست بالمناسبة حصراً على مجتمعاتنا، إنما هي موجودة، وإن بنسب متفاوتة، بين أمم الأرض مسلمين وغير مسلمين. غير أن المثير للاهتمام أن مثل هذه التصرفات التي لا تمت للدين، فضلا عن العقل، فضلاً عن التحضر، بأي صلة، تلقى ترحيباً وتقديراً وإجلالاً من قبل بعض المتعصبين والغلاة والجهلة، كما هو حال رواد وكتاب ذلك المنتدى الذي أتحدث عنه، وبالشكل الذي جعلني أتساءل: إلى أين نحن سائرون؟ فهل التعصب والتشدد والعيش في الماضي هو إفراز (طبيعي) لظاهرة التخلف والثقافة عندما تتكلس، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون سوى ظاهرة (مرضية) ستزول مع الزمن ومع التحضر ومع برامج التنمية حتماً.
أعرفُ أن ظاهرة ذلك الزاهد هي ظاهرة متطرفة، غير أنها ومن زاوية أخرى (مثال حي) وماثل أمامنا، تتجسَّد فيه مأساتنا الفكرية والثقافية والمعيارية والتي تكمن في (النكوص) إلى الماضي، ليس لفهمه والانطلاق منه، وإنما للتقوقع في صومعته، والتلذذ بالعيش بين رجاله، والحديث بلغته، والترنم بأشعاره وترديد أقوال أساطينه، وآرائهم واجتهاداتهم. والذي يجب أن نعترف به أن هذه الظاهرة المرضية هي- بصراحة- ظاهرة وبائية منتشرة بين عدد ليس بالقليل من طلاب العلم الشرعي خاصة، وفي المملكة على وجه التحديد. خذ-مثلاً- أي نقاش يدور حول أي ظاهرة اجتماعية، أو مرض اجتماعي، ولتكن ظاهرة (التطرف) الديني كمثال. ثم لاحظ كيف تتم معالجتها، وكيف يتم نصح وتوعية المبتلين بها من قبل من يتصدون لها من علمائنا، ستجد أن هذه المعالجة من ألفها إلى يائها معالجة تقليدية محضة، لا علاقة لها بالحياة المعاصرة، ولا بالعلوم الحية، ولا بعلم النفس، ولا بعلم الاجتماع، ولا بعلم الاقتصاد، ولا بعلم السياسة، بل ولا علاقة لها حتى بالأحياء من العلماء قدر علاقتها بأحداث المقابر، يتساوى في ذلك العلماء المتزمتون بالعلماء المتفتحين.
وينسى العلماء المتفتحون على وجه الخصوص أن إقرار تلك (الآلية) التي لا تعترف إلا بآراء نمط معين من علماء السلف دون غيرهم من المتخصصين والعلماء وأصحاب الخبرة والتجربة في حقول المعرفة الأخرى، هو في واقع الأمر (أس البلاء) ومربط الفرس من القضية برمتها. كما أن التعامل مع (الحاضر)، على أنه نسخة مكررة من (الماضي)، زماناً ومكاناً، هو أيضا جانب مهم من جوانب هذه المشكلة. كل ذلك- في تقديري- رسخ فينا مثل هذه العادات المعيارية المتخلفة، وكرس عزلتنا تجاه علوم العصر، ومنجزاته، ومتغيراته، فهو الذي جعلنا مثلاً- ونحن على اعتاب القرن الواحد والعشرين- نرفض طبيباً استشارياً أفنى عمره في العلم والتحصيل والتخصص، ونتزاحم على باب رجل أمي جاهل دجال يعالج مرضاه ابتداء من المريض بحالة عصابية نفسية وحتى المريض بالسرطان برذاذ يتطاير من فمه لا يعلم إلا الله وحده ما يحتويه من جراثيم وميكروبات وأوبئه!. أما الحُجَّة فلأن السلف كانوا يمارسون ذلك!.
|