الحُجج الأمريكية.. من العراق إلى السودان

تستطيع الولايات المتحدة أن تحشد الأسباب والمبرّرات لتمرير سياساتها؛ فجميع المنابر الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة بهيئاتها، مفتوحة أمامها، فضلاً عن قدرتها على حشد الأصوات اللازمة لتعزيز مواقفها، والتقدم نحو أهدافها. لكن في الخطوات الأولى أو اللاحقة لتنفيذ تلك السياسات قد تظهر الحقيقة، وتتلاشى الأسباب التي بدت في وقت من الأوقات قوية لمهاجمة هذا البلد أو ذاك.
ففي العراق رأينا مبرّرات أسلحة الدّمار الشامل التي سرعان ما انهارت بعد دخول القوات الأمريكية إلى العراق؛ ومن ثم فإن القوات الأمريكية تبحث الآن عمّا يمكن أن يخلصها من المستنقع العراقي الذي دخلت إليه دخول المنتصر، لكنها تجهد الآن للخروج منه بما يحفظ ماء الوجه؛ بعد أن اعترف الرئيس الأمريكي بأنه لم يكن يتصوّر أن تتطور الأمور بهذا الشكل في العراق بعد التاسع من أبريل (تاريخ دخول قواته إلى العراق)، وبعد أن طالت قائمة القتلى في صفوف الجيش الأمريكي لتتجاوز الألف خلال عام ونصف.
وفي المسألة السودانية، يتحدث الأمريكيون الآن عمّا يسمّى الإبادة الجماعية في دارفور على لسان وزير الخارجية كولن باول الذي سبق له، وهو في مسرح الأحداث؛ أي في ذلك الإقليم السوداني قبل بضعة أشهر، أن نفى أن تكون هناك إبادة جماعية. نفي الإبادة ورد أيضا في تصريحات مسؤولين ووزراء أوروبيين ودوليين زاروا الإقليم.
ولا تتعلق التهمة بالحكومة السودانية مباشرة، وإنما بما يسمّى مليشيات الجنجويد التي تصفها الخرطوم ذاتها بأنها خارجة على القانون، لكن الذين يطلقون التهمة يقرّون بعدم مسؤولية الحكومة السودانية المباشرة، وإنما يقولون: إن هذه الحكومة تدعم الجنجويد وتسلحهم.
وفي الأمر بصفة عامة كثير من الخلط؛ فالجهات التي تطلق هذه الاتهامات تقول: إن الجنجويد هي مليشيات عربية تقوم بعمليات تطهير عرقي ضدّ السكان الأفارقة، على الرغم من أن التركيبة السكانية شبه المتماثلة في الإقليم الغربي السوداني لا تسمح بالتمييز بين عرق عربي وآخر إفريقي.
ويمكن التساؤل: ما الذي حمل باول على تغيير رأيه وتأييد الكونجرس في بلاده والذي كان تحدّث عن إبادة جماعية في دارفور؟
الكثيرون يتحدثون عن حسابات تتعلق بالانتخابات الرئاسية الأمريكية الوشيكة، وعن الحاجة إلى أصوات السود ذوي الأصول الإفريقية، وتقدم دارفور مثالاً طيباً يمكن استغلاله من خلال الفرية القائلة بممارسة التطهير العرقي ضدّ الأفارقة من قِبل مَن يقال إنهم عرب، والسعي من ثم لمعاقبة أولئك العرب؛ الأمر الذي يضمن تأييد قطاع عريض من السكان من ذوي الأصول الإفريقية في الولايات المتحدة للمرشح الرئاسي الذي يستطيع التجاوب مع تطلعات العنصر المعنيّ.
وللمسألة أيضاً ما يربطها بمجمل السياسات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، والتي تتمحور حول دعم إسرائيل، وإضعاف الأطراف المناوئة لها بكلّ امتداداتها في هذه المنطقة.