Saturday 11th September,200411671العددالسبت 26 ,رجب 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "محليــات"

دفق قلم دفق قلم
عربيُّ النفس عربيُّ اللسان
عبدالرحمن صالح العشماوي

حينما نصف إنساناً بأنه عربيُّ اللسان - مثلاً - فإنّنا نعني بذلك صفاء لغته، ووضوح منطقه، وخلوص مخارج حروفه من شوائب النطق، ومعايب الأداء. إنَّ البيان العربيّ قائم على السلامة والوضوح، ولهذا كان مقياساً للفصاحة فيما يتعلَّق بالكلمة، وللبلاغة فيما يتعلق بالكلام، ولعلَّ ذلك الوضوح في بياننا العربيِّ هو السِّمة الأهمّ التي تميِّزه عن غيره من أساليب البيان في الُّلغات الأخرى.
إنّ سلامة البيان العربيِّ هي التي جعلت الُّلغة العربية أُمَّ الُّلغات كلِّها من حيث المخارج، وطرائق الأداء، وأساليب التركيب، ومن حيث الثَّراء والغنى في مقدراتها وتراكيبها ونصوص بيانها نثراً وشعراً، ومن حيث سعتها التي تستوعب بما فيها من التصريف والاشتقاق والنحت والتعريب كلَّ ما تواجهه عبر العصور المختلفة من مصطلحات جديدة في مجالات الحياة كلِّها.
من هنا اختار المولى عزَّ وجلَّ هذه اللغة الرَّاقية لغةً لكتابه الكريم الذي ختم به الكتب السماوية، وأنزله على نبيه العربيِّ الأُمِّي الذي رفع لواء البيان والفصاحة قائلاً فيما رُوي عنه - عليه الصلاة والسلام - أنا أفصح العرب، بَيْدَ أنِّي من قريش.
إنَّ العربية بلسانها الفصيح، وأنْسَابها الخالصة، ومواقفها الواضحة ومواطن أهلها المكشوفة ليلاً ونهاراً، فما يحجبها عن الشمس وضوئها الصافي في النهار، ولا عن القمر والنجوم في الليل حاجبٌ، ولا يحول بينها وبين زُرقة السماء وصفائها حائل، إنَّ هذه العربية تُعَدُّ مثلاً جليَّاً من أمثلة الوضوح، والبيان التي تناسب وتوافق وضوح دين الإسلام وبيانه، وتصلح - إذا استقامت على طريقه - أن تكون حاملةً لصفائه ونقائه (خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا).
وليس هذا الصفاء والنَّقاء العربيُّ مسوِّغاً للتعصُّب الأعمى، ولا مجيزاً للاحتقار للآخرين، كلاّ، بل هو سبيلٌ واضح جليٌّ يصل إلى عقول الناس وقلوبهم دون خداع أو مخاتلة أو تضليل، وهو يدٌ حانيةٌ تحمل الناس إلى عوالم الوضوح والنَّقاء والصَّفاء، ولذلك وصف الله كتابه الكريم بالعربي المبين، ووصف رسوله عليه الصلاة والسلام بالعربي، ورفع من أساليب اللغة العربية وزادها قوةً وثباتاً.
إنَّ العنصر العربيَّ عنصرٌ واضح، لا يقوم على الغَمْغمة ولا الهمهمة، ولا يعتمد على الدسِّ والتشويه ما دام متصلاً بوضوح الإسلام وصفائه، إنها فضائل تضاف إلى فضائل، ورُقيٌّ ينضمُّ إلى رُقيّ، فإذا انفصل العنصر العربي عن صفاء الإنسان، ارتكس إلى صفات الجاهلية وسماتها ارتكاساً واضحاً لا خفاء فيه.
إنَّ الإسلام، ونبيَّ الإسلام قد حَمَلا صفاء الإسلام إلى وضوح العربية وبيانها، وأرشدا الناس إلى ذلك دون تعصُّب للعنصر العربي، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سلمان سابق الفرس، وصهيب سابق الروم، وبلال سابق الحبشة، وأنا سابق العرب) تحديدٌ واضحٌ لمعنى الاندماج الواضح الذي أحدثه الإسلام في نفوس العرب، موجِّهاً وضوحهم وبيانهم توجيهاً سامياً يرتفع بالبشرية كلِّها إلى شرع الله الحكيم.
(عربي النفس، عربي اللسان) كلمة قالها الربيع بن سليمان في وصف الإمام الشافعي - رحمه الله - ذلك الرجل الذي جعل إتقانَه للغة العربية، وحفظَه لنصوصها من القرآن، والسنَّة، وما صفا وسما من أشعار العرب قاعدة قويَّةً بنى عليها فقهه العظيم الذي تميَّز بنصاعة الأسلوب، وصفاء البيان حتى قال عنه أحمد بن أبي سُريج: (ما رأيت أحداً أفْوَهَ ولا أنْطَقَ من الشافعي) لقد كان فقيهاً تُؤْخَذ عنه اللغة، ويُروَى عنه الشعر الجيد، فقد قال راوية الأدب العربي (الأصعمي): (أخذت شعر هذيل عن فتى في مكة يقال له: محمد بن إدريس - يقصد الشافعي).
إنَّ جلاء آراء الشافعي، وصفاء ذهنه، ورُقيَّ لغته، ووضوح مصطلحاته الفقهيَّة نتيجةٌ من نتائج صلته باللغة العربية التي جعلته عربيَّ النفس من حيث الوضوح وسموّ الهدف، عربيَّ اللسان من حيث الفصاحة والبيان.
ما أحوجنا في هذا العصر الذي تحاصر فيه كثيرٌ من وزارات التربية والتعليم في عالمنا العربي لغتنا العربية (لغة القرآن) حصاراً مؤلماً، ما أحوجنا في هذا العصر إلى هذه الصفة (عربي النفس، عربي اللسان) بمعانيها السامية المرتبطة بشريعة الإسلام!.
إشارة :
يقول الشافعي:


ومن الشَّقاوة أن تُحبَّ ومَنْ تُحبُّ يُحبُّ غَيْرَكْ
أوْ أنْ تريد الخير للإنسان وهو يُريد ضُرَّكْ


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved