توقعت دراسة حديثة لهيئة تطوير مدينة الرياض أن يبلغ عدد سكان مدينة الرياض 17 مليون نسمة بعد 25 عاماً، وهو رقم عالٍ جداًَ لمدينة تعيش على ضفاف الصحراء، وتبعد مئات الكيلومترات عن السواحل، وتفتقر لمصادر المياه، ولم توضح الدراسة الأسباب الموضوعية لتلك الطفرة السكانية في الرياض، فالرياض ليس موطناً للماء، ولا تقع على ضفاف نهار جارٍ، فما الذي يجعل الرياض من أسرع حواضر العالم ازدياداً في عدد السكان. أرجعت الدراسة سبب ازدياد السكان إلى التحول الاجتماعي لتكوين الأسر المفردة، ولم تتطرق لحجم الهجرة من القرية إلى المدينة. وهو حسب وجهة نظري العامل الرئيسي، ويحتاج إلى دراسات وشفافية متناهية لكشف أسباب الهجرة إلى مدينة الرياض، وما هي المخاطر التي ينتظرها هذا التجمع البشري الهائل في وسط الجزيرة. والجدير بالذكر أن القرى والضواحي المجاورة لا تختلف كثيراً في طبيعتها القاسية عن الرياض، فالجميع يعاني من خطر التصحر، وتهديد شح الموارد الطبيعية..، والهجرة الجماعية إلى الرياض قد يزيد من فرص حدوث الكارثة المائية في المدينة مستقبلاً..
آخر الاكتشافات الأثرية في صحاري العالم القديم حسب علمي، ما أطلق عليه علماء الآثار بأقوام (الجارامانتيس).. أو مملكة الصحراء الضائعة في صحراء ليبيا، وخلافاً لما جاء به المؤرخون الرومان القدامى، والتي وصفتهم حالهم بالقبائل الشرسة وغير المتحضرة، أثبتت بحوثاً أجراها علماء من جامعتي لستر ونيوكاسل في بريطانيا أن الجارامانتيس كانوا يقطنون مدناً متطورة، وابتكروا نظاماً للري أتاح لهم استخدام رمال الصحراء في الزراعة، والسر يكمن في شبكة قنوات للري تقع تحت سطح الأرض، تتصل بدورها بخزانات طبيعية للمياه، كان هناك المئات بل الألوف من هذه القنوات، وإن العمل الذي قامت به هذه الأقوام من اجل بقائها مذهل حقاً، ولايزال الغموض يحيط بموطن الجارامانتيس الأصلي، كما يحاول الباحثون التوصل إلى ما حل بهم في العصور الوسطى، لكن الشيء المؤكد ان حضارتهم بلغت ذروتها في القرون الميلادية الأولى، ومن ثم اندثرت نتيجة شح المياه.. والمياه في مسيرة الإنسانية العامل الأهم في ظهور الحضارات وتقدمها، لما يشكله الماء من حالة استقطاب للأفراد وللجماعات، ولإقامة المجتمع وإرساء أسه من خلال إقامة التجمعات السكانية بالقرب من الموارد المائية الطبيعية، وشح المياه وجغرافيا الجفاف في الشرق لعبت أدواراً متعددة في تشكيل شخصية الإنسان العربي منذ القدم، وحكمت ظروفها القاسية عليه أن لا يثق ببواديها، وجغرافيتها القاسية، وأن يمتهن الهجرة والتنقل من واحة إلى أخرى، ومن بادية إلى أخرى، وأن يمتنع في الغالب عن الاستقرار في موطن واحد، وأن يستمر في بحثه عن مورد جديد للمياه، وأرض يسود فيها، ربما يفسر هذا النمط من العيش غير المستقر، غياب آثار المد العمراني فيما بعد عصور العرب البائدة...
أرقام ازدياد السكان ونقص المياه الجوفية، تنذر بتكرار معاناة الإنسان القديم مع شح المياه في جزيرة العرب، لكن الإنسان العربي في الزمن الحالي يعيش وسط عوامل حضارية لم تحدث من قبل، وذلك لتوفر مصادر الطاقة. ووسائل التكنولوجيا الحديثة، وهي ظروف قد تهيء إيجاد تقنيات قادرة على قهر الطبيعة القاسية، وعلى التغلب على دورة الهلاك التاريخية في بيداء الجفاف، لذلك يجب مواجهة الحقائق المرّة بكل شجاعة، وتوظيف قدرات العقل البشري في العمل على ايجاد حلول جذرية، لا تقف فقط عند نشر الإرشادات لخفض الاستهلاك، فمهما انخفضت كميات استهلاك المياه، فلن تقضي على خطر الجفاف وشح المياه في المستقبل. ظاهرة شح المياه الجوفية ستهلك الحرث، وستؤدي الى انحسار المحاصيل الزراعية وهلاك الماشية، وانتشار الامراض الوبائية، والاهتمام الرسمي بالمعضلة واضح للجميع. لكن هل الحلول الحالية قادرة على إيجاد الحلول الجذرية، وهل هناك دراسات أو استطلاعات للرأي عن حجم الأزمة حالياً..، لكن من خلال إلقاء نظرة سريعة على شوارع الرياض سنلاحظ ازدياد سيارات نقل المياه لبعض الأحياء، وبالتأكيد لا تكفي مثل ملاحظات كهذه لتحديد حجم الأزمة.. لكنها تعني لساكني المدينة صافرة إنذار لخطر قادم..
اكتشاف النفط في دول الخليج العربي وفي المملكة العربية السعودية بالتحديد، قلب موازين التحول الجيوستراتيجي لأول مرة نحو الجنوب في تاريخ المنطقة العربية، فتكوين الدولة، وتطور التقنيات الحديثة وهبت الإنسان العربي في الجزيرة العربية أملا ً جديداً في الإفلات من مصير الإملاق والعطش، وسخرت له الوسائل الضرورية للاستقرار الحضاري، وللمد البشري، فتضاعف سكانها عشرات المرات، وصارت لأول مرة في التاريخ هدفاً للعمل وطلب الرزق لسكان الشمال. لكن هاجس أزمة المياه المستمر، وازدياد السكان المستمر لا يزال يشكل ( الخطر) المحتمل، وبدون حلول جذرية لتلك المعضلة، سنظل نعيش على هم الأزمة او الكارثة المرتقب حدوثها في مستقبل الأيام..
والمياه برغم من ندرتها تستخدم كإحدى الوسائل الضرورية في عمليات استخراج النفط من الأرض، وقد يحتاج استخراج برميل واحد من النفط نفس الكمية من الماء، وهو ما يعني أن هناك كمية من الماء تستنزف مقابل استخراج برميل من النفط، وأرض الوطن غنية بالنفط، وهو شريان الاقتصاد الأهم، وقصة اكتشافه تعتبر الحدث الطبيعي الأهم في تاريخ جزيرة العرب منذ آلاف السنين، لكن نعاني بشدة من ندرة العامل الأهم لاستمرار الحياة على أراضيها، وهو ما يثير تساؤلاً عن كيفية استغلال هذه الثروة الهائلة لتوفير المصدر الأهم لاستمرار أي تجمع بشري على وجه الأرض، والتفكير في البحث عن حل (إستراتيجي) لتلك الإشكالية الطبيعية، ولتكن مثلاً وضع ضريبة (ماء) على كل برميل نفط مستخرج، تقتطع من ثمن بيعه لتوفير مورد ثابت ومستمر من الدخل النفطي للاستثمار في رفع معدلات مصادر المياه الصالحة للاستعمال، ولمواجهة أخطر أزمة ممكن حدوثها في مستقبل الوطن،.. حيث لا يمكن تصور وصول مدينة الرياض أو أي مدينة أخرى للرقم (17) مليون نسمة بدون حل جذري ودائم لمعضلة المياه في الوطن..
|