أصلع ولم يزل في العقد الثالث من عمره.. يبكي ويغني ولكن صوت الغناء عنده أعلى.. فهو يقول في آخر حديث معه - مختصراً الحقبة التاريخية الحالية المريرة الشاقة من حياة أمته:
هذه أمة عظيمة لابد لمخاضها أن يكون عظيما ولعذاباتها أن تكون عظيمة. إنه الشاعر.. الصحفي أحمد عبدالمعطي حجازي صاحب دواوين (مدينة بلا قلب) و (لم يبق إلا الاعتراف) وأخيراً (مرثية لاعب سيرك).
* حجازي ماذا ديوانك الأخير (لاعب السيرك)؟
- لاعب السيرك هو الإنسان والقصيدة هي من أهم قصائد الديوان. الفكرة الأساسية فيها أنك تستطيع أن تعيش طالما لست ذاتك الحقيقة. وفي اللحظة التي تقرر فيها أن تكون نفسك تسقط على الفور.
* بعض الأبيات من هذه القصيدة:
(في أي ليلة يقبع ذلك الخطأ؟
ممدداً تحتك في الظلمة
يجتر انتظاره الثقيل
كأنه الوحش الخرافي الذي
ما روضت كف بشر
فهو جميل كأنه الطاووس
جذاب كأفعى.. ورشيق كالنمر
وهو جليل كالأسد الهادئ
ساعة الخطر
وهو مخاتل
فيبدو نائماً
بينما يعد نفسه للوثبة المستعرة
وهو خفي لا يرى
لكنه تحتك يعلك الحجر
منتظرا سقطتك المنتظرة).
* يقال : إن في أشعارك حزنا واضحاً ورفضا غير واضح لكل الاشياء هل يمكنك تفسير هاتين الظاهرتين؟؟
- أنا حزين لأني خسرت كثيراً مما كنت أحبه وأحلم به، ورفضي واضح على عكس ما تقول. انني أرفض الكذب والاستسلام والمهادنة مع النفس.
* هل شعرك من النوع المسمى (شعرا حديثا) أم انه شعر خاص في مجموعة الشعر الحديث؟
- شعري هو شعر أولا.. وهو شعر حديث ثانياً.
* كيف؟
- دعك من شكليات الشعر الحديث كعدم الالتزام في عدد التفعيلات المتساوية والقافية الواحدة واللغة الشعرية بالمعنى القديم للكلمة. فالحداثة في الشعر هي وعي الشاعر بقصيدته. وبالفكرة التي يريد أن يعبر عنها في القصيدة. ففي الشعر كما في كل فن لا يوجد جديد أو حديث، فكل ما يقال من قيم فنية جديدة موجودة في الفنون القديمة. وربما كان الشيء الوحيد الذي يمكنه أن يعتبر حديثا في الشعر الحديث هو وعي الشاعر نفسه.
* هل أفهم من كلامك- أن (غوته) و (بايرون) و (فيكتور هيغو) لم يكونوا واعين لما يقولونه؟؟
- هؤلاء كانوا محدثين لأنهم ادخلوا البيانات في شعرهم ؛ فالرومانسيون والداديون والرمزيون الكلاسيكيون الجدد كانوا شعراء محدثين (هيغو مثلا كتب مقدمة لمسرحية كرومويل).
* إذاً الشعر الحديث برأيك هو الشعر المسيَّس؟؟
- لا بل هو الشعر الذي يتضمن ما يسمى بالحاسة النقدية علما بأنه لا يوجد وعي حقيقي بحقائق ومشاكل العصر.
* هناك رأي خلاصته أنك واودونيس تشكلان مرحلة (عقلانية الشعر العربي الحديث)؟
- لا أدعي أنني وحدي مع ادونيس في هذا المجال. فهناك عدد كبير من الشعراء يحاولون ذات المحاولة، لكن الفرق أن بعضهم يحاول ذلك من خلال الشعر، في حين أن البعض الآخر يبرز (بضم الياء) وعيه أكثر من ابراز شاعريته.
* هل يمكنك تصنيفك من بين الشعراء الملتزمين، وبماذا أنت ملتزم؟
- أنا ملتزم بأمتي والشعر.
* ما رأيك بالدعوة التي يرفعها بعض الشعراء لاسبتدال اللغة العربية الفصحى بالعامية أو بالحرف اللاتيني؟
-أنها دعوة لا تقوم على أي أساس، وكل دعوة تبدأ من انكار الامة، وانكار تاريخها، دعوة غير اصيلة ومصيرها الفشل.
في مصر قامت دعوة من هذا النوع مدعية أن التطور في صالحها.
وأنا أرى أن التطور يثبت كل يوم ان عدد الذين يقرأون الفصحى ويكتبون بها يزداد مع الأيام. ان الحاجة إلى الفصحى التي كانت في الماضي حاجة دينية وتاريخية، صارت الآن بالاضافة إلى ذلك حاجة عصرية.
* هناك رأي يقول: ان عصر الشعر قد انتهى بسبب روحية العصر الحاضر وميكانيكيته؟
- أنا أظن العكس: فما بين أيدينا من معلومت يدل على أن الشعر لا يموت في المجتمعات الحديثة، بل تزداد حيويته والاقبال عليه. في بريطانيا وصل توزيع بعض مؤلفات الشعراء إلى المرتبة الثانية بعد توزيع كتابهم المقدس (ت.س. اليوت) مثلا فطالما هناك إنسان هناك حاجة إلى الفن والشعر.
* من المعروف أن بدايات مدرسة الشعر العربي المعاصر (بكل تياراتها) قد شهدت تأثراً بالمدارس الشعرية المعاصرة في أوروبا وأمريكا، فأين كان موقفك الخاص؟!
- لقد كان هنالك، منذ البداية نوعان من التأثر بالمدارس الشعرية العالمية، وقد ظهر الاختلاف بين هذين النوعين فيما بعد بوضوح شديد:
* بعض الشعراء العرب انطلق كخط يكمل التراث العربي ضمن اطار العصر الحديث، فقرأ، شعر أوروبا وأمريكا. وغرف من ينابيع مفاهيمه الجمالية العصرية.
* والبعض الآخر اغترب نهائيا عن التراث، واستوطن في التجارب الاوروبية والأمريكية، فلم يكتف بمجرد التأثر بمفاهيمها الجمالية العصرية وانما استورد لبلادنا التجارب الإنسانية الغريبة أصلا عن ظروفنا وطبيعتنا، وكان هذا تقليداً سطحياً بدا واضحاً في قصائد بعض الشعراء العرب التي كانت تزخر بصور منقولة حرفيا عن تجارب انسانية كان من الواضح تماما انها تجارب الشاعر الأوروبي، والإنسان الأوروبي.
فإذا كان لي أن أحدد موقفي بين هذين التيارين، يمكنني القول إنني مع عدد آخر من شعراء المدرسة الحديثة- انتمي إلى التيار الأول وفي رأيي أن هذا التيار هو المرشح للاستمرار.
* إذاً.. كيف يكون الشعر الحقيقي؟
- إن الشعر الحقيقي والصافي لا يمكن إلا أن يكون وليد معايشة كاملة بين الشاعر والكون فيكون عقله ضمن هذه المعايشة اداة بين مجموعة أخرى من الأدوات فيها العاطفة والغريزة والاستفراد الشفاف، أما إذا كان العقل هو الأداة الاساسية بين هذه الادوات فإن النتاج الشعري سيسقط في الصور النثرية وسيفقد حرارة النبض وشفافية الرؤيا.
* وماذا عن الكآبة والصوفية واليأس، وهي ملاجئ يهرع إليها حاليا عدد من شعراء العرب المعاصرين؟
- الكآبة واليأس والتصوف، كلها في رأيي مواقف ناقصة وعاجزة عن الارتقاء إلى المستوى الشعري الرفيع. فكما أن التفاؤل وحده هو موقف ساذج فان اليأس وحده هو أيضا موقف ساذج بنفس المقدار. بينما يعتقده البعض موقفا ناضجاً متكاملاً. ليس المطلوب من الشاعر أن يكون مستمر التفاؤل ولكن شفافية الرؤيا الشعرية لا يمكن أن تغلق على نفسها النوافذ وتتقوقع في قبو معتم، وتدَّعي لنفسها ذلك العمق والشمولية والحكمة. اليأس عجز عن الرؤيا، والعجز عن الرؤيا هو عجز شعري واضح كذلك فإن اليأس قد تحول عند الشعراء العرب إلى (موضة) يعتقد البعض أنها دليل الحكمة والنضج واكتمال الرؤيا الشعرية مع انه في الواقع دليل عجز هذه الرؤية وتصورها.
|