Friday 10th September,200411670العددالجمعة 25 ,رجب 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "أفاق اسلامية"

«الجزيرة » تفتح ملف.. سلوكيات يرفضها الإسلام «34» «الجزيرة » تفتح ملف.. سلوكيات يرفضها الإسلام «34»
الظلم عاقبته مفجعة وعقوبته موجعة «1- 2»

* الجزيرة - خاص :
جاء الإسلام ليخلص البشرية من أدران الجاهلية وأمراضها، ويقوم السلوك الإنساني ضد أي اعوجاج أو انحراف عن الفطرة السوية، ويقدم العلاج الشافي لأمراض الإنسان في كل العصور القديم منها والحديث، مما حملته العصور الحديثة بتقنياتها ومستجداتها، وهو علاج تقبله كل نفس سوية، ولا ترفضه إلا نفوس معاندة مكابرة، جاهلة، أضلها هوى، أو متعة زائلة.
وقد استوعبت الشريعة الغراء كل ما قد يقترفه الإنسان من ذنوب، أو محرمات في كل عصر، سواء كانت أقوالاً أو أفعالاً، أو حتى ما يعتمل في الصدور من مشاعر وانفعالات، وأبانت أسباب تحريمها جُملة وتفصيلاً في القرآن الكريم والسنة المطهرة، إلا ان الكثيرين مازالوا يسقطون في دائرة المحرمات هذه، إما جهلاً، أو استكباراً، أو استصغاراً لها، أو بحثاً عن منفعة دنيوية رخيصة واستجابة لشهوة لحظية، بل إن بعض هؤلاء يحاولون الالتفاف على حكم الإسلام الرافض لهذه السلوكيات، بدعاوى وأقاويل هشة لا تصمد أمام وضوح وإعجاز الإسلام في رفضه لهذه الموبقات التي تضر ليس مرتكبها فحسب، بل تهدد المجتمع بأسره.
و«الجزيرة».. تفتح ملف هذه السلوكيات المرفوضة، تذكرةً وعبرةً ووقايةً للمجتمع من أخطار هذه السلوكيات، وتحذيراً لمن يرتكبها من سوء العاقبة في الدنيا والآخرة، من خلال رؤى وآراء يقدمها أصحاب الفضيلة العلماء والقضاة والدعاة وأهل الرأي والفكر من المختصين كل في مجاله..
آملين ان تكون بداية للإقلاع عن مثل هذه السلوكيات التي حرمها الله، قبل ان تصل بصاحبها إلى الندم وسوء الخاتمة.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
الظلم ظلمات يوم القيامة، والظالم عدو لنفسه كما أنه عدو لغيره، والظلم أنواع.. منه ظلم النفس، وظلم الغير، وظلم المجتمع، ولكل منها أنواع عديدة، والظلم هو تطاول على حقوق الغير، وهدر لهذه الحقوق، وأخذ منها بغير وجه حق، وقد يكون الظلم مادياً أو جسدياً أو نفسياً أو معنوياً أو غير ذلك، وقد يظلم الأفراد بعضهم، كما قد تظلم المجتمعات بعضها، لذا حارب الإسلام الظلم بكل أنواعه، وشدد على ضرورة رأفة أرباب العمل بموظفيهم، وأصحاب السلطة برعيتهم، وأصحاب المال بالمحتاجين، دفعاً لهذا السلوك على صعيد الفرد والمجتمع والأمة، لكن كيف ندفع الظلم في أنفسنا، وعن غيرنا لتجنب آثاره وعواقبه في الدنيا والآخرة؟
ولأهمية الإجابة على هذا السؤال.. نتعرف في هذه الحلقة (الأولى) على أشكال وعواقب الظلم الذي يمحو الآثار، كما حذر منها الإسلام، والتي تؤكد أن الظلم داء مهلك، وبلاء فتاك، وأصل كل معصية، وسبب للشقاء والخسران.
في البداية يقول الشيخ عبدالعزيز بن محمد النصار القاضي بديوان المظالم بالدمام: إن العدل هو سنة الله في كونه، وسنته في حكمه، وسنته في خلقه، فالله تعالى شرع العدل وأمر به: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى}، والله سبحانه وتعالى منزه عن المظلم، فالظالم إنما يظلم لحاجته إلى الظلم أو لجهله، والله تعالى غني عن كل شيء، عليم بكل شيء، وهو غني بنفسه، وكل ما سواه فقير إليه، وهذا كمال العظمة: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}، {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}، {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ}.
والظلم داء مهلك وبلاء فتاك، وهو أصل كل معصية وأساس كل ذنب، ومنبع الآثام وفساد الأمم، لذا فقد حرمه الله تعالى على نفسه وجعله بين عباده محرماً، روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، وفي الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة)، وحقيقة الظلم هي وضع الأشياء في غير مواضعها الشرعية، وتجاوز الحد فيها بتفريط في الحق أو تعدٍ للحد، فكل منهما ظلم، فترك الواجب ظلم، كما أن فعل المحرم ظلم، والظلم الذي حرمه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أنواعه كثيرة ووسائله عديدة، يقول الله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، ويقول جلّ ذكره: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، فالشرك أعظم ذنب عُصي الله به، لأنه بغي وعدوان من العبد على الرب الخالق الموجد المتفضل ومضادة لله في أمره، ولذا فإن الله تعالى لا يغفر هذا الذنب لمن مات عليه: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}.
أنواع الظلم
ويعدد الشيخ النصار أنواع الظلم فيقول: منها ظلم العباد بالبغي والاعتداء عليهم في دمائهم، وأكل أموالهم بالباطل، وانتهاك أعراضهم، والتعرض لأوضاعهم وأنسابهم، ففي الحديث الصحيح يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع للناس: (أي يوم هذا؟ قالوا يوم الحج الأكبر، قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا لا يجني جانٍ إلا على نفسه، ألا لا يجني جانٍ على ولده ولا مولود على والده، ألا وإن الشيطان قد أيس من أن يعبد في بلادكم هذه أبداً، ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم فسيرضى به) رواه الإمام الترمذي وغيره.
والمرء سواء كان من الولاة أو من الرعية في كل ما يصدر عنه من تعامل مع غيره من الناس، إما أن يكون لحق يتعلق به مع غيره أو يتعلق بغيره من الناس، وفي كل حال فإن ما يصدر عنه يعد حكماً في تلك الواقعة، وهو بجنابة القاضي، فهو مسؤول عن حكمه، ووجوب العدل فيه، وتجنب الظلم بأمانة وتجرد دون تأثر أو تأثير، وهذا يشمل كل شؤون الحياة، الوالي في ولايته، والوزير في وزارته، والمدير في إدارته، وكل موظف في اختصاصه، والتاجر في متجره، والوالد مع أولاده، والزوج مع زوجاته، والمعلم مع طلابه {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ}.. وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان عنده مظلمة لأخيه من عرض أو من شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه وحمل عليه) رواه البخاري، وفي الحديث الآخر يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يوم القيامة يحشر الله العباد أو قال الناس حفاة عراة غرلاً بهما ليس معهم شيء ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عليه مظلمة حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار ولأحد من أهل الجنة عنده مظلمة حتى أقصه منه، حتى اللطمة، قال: قلنا كيف وإنما نأتي الله عز وجل عراة حفاة غرلاً بهما؟ قال: بالحسنات والسيئات).
أمور الناس والعدل
ويؤكد الشيخ النصار أن أمور الناس إنما تستقيم في الدنيا مع العدل، ولا تستقيم مع الظلم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال أيضاً: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم)، فالباغي يصرع في الدنيا وإن كان مغفوراً له مرحوماً في الآخرة، وذلك أن العدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بالعدل قامت، والظلم فساد فإذا توغل في الأمور فسدت.
ومن أنواع الظلم أيضاً كما يقول الشيخ النصار ظلم الإنسان نفسه بحملها على الفسوق والعصيان، وبزجها في غمار الموبقات والآثام، تسرح في مراتع الهلكة والخسران في مخالفة ما أمر الله به، والوقوع فيما نهى الله، باتباع الهوى وتزيين الشيطان {وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ}، {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ}.
والظلم محرم بكل أنواعه وأشكاله وأساليبه قليله وكثيره، محرم في كل شيء، ولكل أحد، فلا يحل ظلم أحد أصلاً سواء كان مسلماً أو كافراً أو ظالماً، يقول جل ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}، أي لا يحملنكم بغض قوم على عدم العدل، ولهذا جاء الوعيد الشديد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم للظالمين بالعقوبة العاجلة في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة، يقول الله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ {42} مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء {43} وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ {44} وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ {45} وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يمهل للظالم فإذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}) رواه البخاري ومسلم.
موجب للعقوبة
من جانبه يحذر الشيخ عبدالله بن صالح القصير الداعية المعروف المسلمين من الظلم، فيقول: إن الظلم موجب للعقوبة، وسبب من أسباب الشقاء والخسران في دنياكم وأخراكم، ولا تغتروا بإمهال الله للظالمين، فإن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}، {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا}، فالظالم وإن جاءته أموره على ما يريد أو تمتع بما كتب الله له من الأيام وهو جبار عنيد، {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}.
ولقد توعد الله الظالمين بوعيد شديد، وتهددهم بتهديد أكيد، يزجر العقلاء عن الظلم، ويبين لهم ما فيه من الإثم، فقال تعالى: {وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}، وقال سبحانه: {وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، وقال جلّ ذكره: {وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}، وقل جلّ وعز: {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ}، وقال تبارك وتعالى: {أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}، والظلم مرتع وخيم وجرم عظيم، عاقبته مفجعة موجعة، فأهل الظلم متوعدون بقصم الأعمار وخراب الديار، وليس لهم يوم القيامة - إن لم يتوبوا - إلا النار { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا}، {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ}، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}، {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا}، ولا يظن الظالم أنه إذا طالت أيامه وحصل مرامه أنه في أمنة من العقوبة، بل ذلك الإمهال لتستكمل الأعمال وتستنفد الآجال، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)، وكم في قصص الغابرين وما أحله الله بالظالمين المعاصرين من جليل العبر وبليغ المواعظ لمن ادكر.
أشكال الظلم
ويضيف الشيخ القصير: أصل الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، وهو دركات وهلكات بعضها أكبر وأخطر وأضر وأشر، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً)، ذلكم لأن أخوة الدين هي أوثق الصلات بين المؤمنين وأحكمها عقداً وأقوى مودة، فلا تنفصم عراها ولا تغيرها الأحداث، ولا تختص بقوم دون آخرين، ولا بزمان دون زمان، أو مكان دون مكان، فأخوة الدين حقها فوق كل شيء، وللمسلم على أخيه أن لا يظلمه لنفسه ولا لغيره، ولا يسلمه لمكروه يحل به أو مصيبة تنزل به، بل يشاركه أفراحه وأتراحه، ويواسيه في سرائه وضرائه، ويعزه إذا ذل، ويكرمه إذا حل، ويشيعه إذا ولى، وينصره إذا ظلم، ويكسبه إذا عدم، وإن أحسن شكره، وإن أساء عذره.
ومن الظلم أيضاً أكل أموال الناس بالباطل، وأكل الرشا والإدلاء به لدى القضاة والحكام ومسؤولي الدوائر الحكومية، فكل ما يؤخذ للمحاباة في الأحكام، والتلاعب بالأنظمة، والحمية الجاهلية، وإعطاء الشخص ما ليس له على حساب غيره، فلا تظن أيها الظالم الخائن أن الله غافل عنك، ولا أن الليالي والأيام تمضي دون أن تعضك بنابها، والناس مظلومون يحاربونك بسهام الليل، ولذا قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ: (اتقِ دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب).
ويشير الشيخ القصير إلى أن ظهور الفتن وتوالي المحن في المجتمعات وزوال الدول في قصير اللحظات من آثار الجور والظلم.. مؤكداً أن من أشد أنواع الظلم وأخطرها عاقبة عقوق الوالدين، وقطيعة الأرحام، والحيف على الزوجات، وسوء تربية البنين والبنات، كل ذلك من عظيم الظلم وموجبات العقوبة والإثم.. في حين أنه لو أخذ المسلمون بتعاليم دينهم، والتزموا أحكام شريعته في العبادات والمعاملات، لحفظت حقوقهم وصلح ما بينهم، وربحت تجارتهم في ديناهم وآخرتهم، وبورك لهم في أرزاقهم، وتيسرت أمورهم، لكن مخالفة الشرع جفاء وظلم للعباد، ومن الظلم أيضاً مطل الأغنياء، فمن أخر حقاً عليه من دين أو قرض أو صداق - مع قدرته على أدائه - فقد ظلم، قال صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم).
لذا على أهل الإسلام التعاون على البر والتقوى، والتناهي عن الإثم والعدوان، والبعد عن الظلم، فمن كان عنده لأخيه شيء فليؤده إليه غير مماطل ولا متساهل، ومن كان له عند أخيه شيء فليأخذه غير مشاق ولا متعنت ولا مستحل لما حرم الله عليه، فإن خير الناس أحسنهم قضاء في المعاملة بل كما قال تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}.
الظلم شؤم وعافيته عزم
أما الشيخ صفوان المشيقح رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ببريدة فيقول: الظلم شؤم، وعافيته غرم، فإنه يقصم الأعمار، ويمحو الآثار، ويخرب الديار، وليس لأهله يوم القيامة إن لم يتوبوا إلا الخزي وعذاب النار، فلا يغتر الظالم ولو جاءته أموره على ما يريد، ولو طالت أيامه وهو جبار عنيد، فإن الله تعالى قد توعد الظالمين بوعيد شديد، وتهددهم إن لم يتوبوا بتهديد أكيد، زجراً للعقلاء عن الظلم وتنبيهاً لهم على ما فيه من الإثم والشؤم، فقال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ}، {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}.
ولقد توعد الله الظالمين بالضلال، ونفى عنهم الهدى، فقال: {وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء}، وقال تعالى: {وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، وأخبر أنه سبحانه لا يحب الظالمين بل يلعنهم، فقال: {وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}، وقال تعالى: { أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}، وختم جلّ شأنه للظالمين بالنار وبئس القرار، فقال تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا}.. والقرون والأجيال، شاهدة على ما أحل الله بالظالمين المتجبرين من الغابرين والمعاصرين، من فظيع العقوبات وألوان المثلات التي صاروا بعدها أثراً بعد عين وعبرة للمعتبرين: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ}، {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ}.. وفي الصحيح سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم؟ فقال: (أن تجعل لله نداً وهو خلقك).
ويرى المشيقح أن الشرك بالله بدعوة غيره معه، أو تسوية أحد من خلقه به في شيء من خصائصه هو أعظم الذنب وأكبر الظلم، فمن دعا غير الله، أو ذبح لغير الله، أو استعان أو استنجد به فيما لا يقدر عليه إلا الله، فقد أشرك بالله الشرك المخرج من الملة المحبط للعمل، الذي توعد الله من ارتكبه أن لا يغفر له حتى يتوب منه، وتوعد أهله بقوله: {مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ}، وقال تعالى: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا}، وقال: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا}.
عقوق الوالدين
ومن أشد أنواع الظلم أيضاً وأعظمها في الإثم عقوق الوالدين، وقطيعة الأرحام، وقتل النفوس بغير حق الإسلام، والحيف على الزوجات، وسوء تربية البنين والبنات، والجور عليهم بتفضيل أحد على أحد بشيء من الميراث، أو وصية جائزة، أو غير ذلك مما يورث الإحن، ويوقظ الفتن، فكل ذلك من الظلم الذي حرمه الله وتوعد عليه بشديد العذاب، كما أن من الظلم ظلم النفس بترك الواجبات، أو فعل المحرمات، أو التفوه بالفاحش من الكلمات، فإن هذا ظلم لها بمباشرة هذه الأمور، فإن من فعل ما نهى الله عنه أو ترك ما أمر الله به عمداً فقد ظلم نفسه بتعريضها للعقوبات، التي توعد الله بها، المعتدين لحدوده، المخالفين لحكمه وشرعه.
ومن أخطر الظلم ظلم الناس بمنع حقوقهم أو بخسها، والمماطلة في أدائها، أو التعدي عليهم في دمائهم وأموالهم وأعراضهم وسائر حرماتهم، فكل ذلك ظلم محرم موجب للإثم، قال صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه)، وحين خطب صلى الله عليه وسلم بالناس بمنى يوم النحر في حجة الوداع قال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليك حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت)، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفره الله، وظلم يغفره، وظلم لا يتركه، فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك، قال الله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، وأما الظلم الذي يغفره فظلم العباد أنفسهم فيما بينهم وبين ربهم، وأما الظلم الذي لا يتركه الله فظلم العباد بعضهم بعضاً حتى يدبر - يعني يقتص لبعضهم من بعض).


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved