لقد أصبح لوضعية الانطلاق من اهتمام المربين ما جعلها تتصدر مشاغل الجميع وتعتبر من عملهم اليومي محوره وأساسه. وإنما كان ذلك لأن للبداية بما يتبعها أوثق الروابط وأمتن الصلات، فهي نقطة ينطلق منها القول والفعل، فيتهيأ للباحث بما لها من قدرة على الإشعاع أن يصل إلى الهدف مذللاً الصعوبات، متخطياً العقبات.
إن أهمية وضعية الانطلاق لا تبرز فقط في الدروس العلمية مثل الرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلم الأحياء، بل تظهر كذلك في كل درس من بقية المواد الأخرى، علمية كانت أم لغوية أم اجتماعية: فالجملة، والنص، والسؤال، والمشهد المصور، والكلمة المسجلة، والحركة الممثلة، كلها تعتبر ما يمكن أن نسميه (وضعية الانطلاق).
وليس من المبالغة في شيءٍ إذا قيل إن العمل التربوي تبدو ملامحه من حيث النتائج سلباً أو إيجاباً من (نقطة البداية) فبقدر ما يحسن المعلم اختيارها محتوى، وصوغها شكلاً، ورسمها هدفاً بقدر ما يكون الدرس سليم الدرب، ثري الجوانب، وتكون للعملية التربوية جدواها وآثارها الطيبة، حيث يكون الطفل عند كل درس في وضعية الباحث المتحسس الذي يصنع بيديه وعقله مصيره وتقدمه.
وضعية الانطلاق في المواد اللغوية
ما دامت الغاية الأساس من تعليم القواعد هي امتلاك اللغة والاقدار على التعبير، فإن القواعد تصبح وسيلة لا غاية وخادماً للغة وحارسها الأمين.
وبهذا الاعتبار وجب - عند تدريس القواعد - صنع دوافع التعبير لدى التلميذ وذلك بجعله يشارك مشاركة فعلية وبصفة تلقائية ليتعلم القواعد عن طريق ممارسة اللغة نفسها، لأن القواعد موجودة في صلب اللغة. ولتحقيق هذا الهدف يمكن أن يكون المنطلق في درس القواعد:
1- الاعتماد على سند بصري (استنطاق صورة أو مشهد بصري بالمقصود).
2- تأليف مشهد على قطعة وبرية يثير التأويل والتعاليق المختلفة لتوفير فرص التعبير الفردي التلقائي المركّز على الوظائف المقصودة مع احكام الصوغ وتحديد الأهداف.
3- النص المختار لهذا الغرض يجب أن يكون مترابطاً ومتماسكاً تتجلى فيه وحدة الفكرة، وإحكام الصوغ، ودقة الكلمة.
وضعية الانطلاق في العلوم والمواد الاجتماعية
1- إن خير ما ينطلق منه في هذه المواد هو أن يقرأ الطفل الطبيعة الحية التي إن وجه إليها، كلما كان ذلك ممكناً زماناً ومكاناً ونوع استغلال، كان طفلنا معلم نفسه، وصائد طريدته، وسيد موقفه.
2- البحث: ولعل هذا الموضوع من أبرز ما شغل المربين حديثاً نظراً لما له من أثر في تكوين الإنسان، والمقصود هنا بالبحث هو ذلك العمل الذي يحاول الأطفال خلاله عدة محاولات ويبذلون مجهوداً شخصياً معتمدين على أنفسهم دون أي توجيه أو مساعدة من طرف المعلم، وبذلك تقوى إرادتهم على تذليل العقبات والصعاب عند كل مشكلة.
3- استعمال الحواس: وهو مبدأ تربوي لا يستغني عنه المعلم في عمله وإن كان تدريب واستعمال الحواس ليس غاية في حد ذاته إلا أنه ضروري للطفل، فالسمع والبصر والشم والذوق واللمس وسائل يدفع بها المرء عن نفسه شر الجهل. ومن هنا جاءت العناية بالوسائل السمعية البصرية التي تسمعون عنها اليوم. وأكرم بالسمع والبصر صفتين من صفات الله عزوجل وإن كان سمعه وبصره يختلفان عما تدركه العقول، فهو السميع وهو البصير، وغير خافٍ أنه في الإمكان أن نستشف هذا المبدأ التربوي في قوله تعالى:{يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ}.
4- إقامة البرهان: الطفل مدعو للتبرير والتيقن من صحة المعلومات إلى إقامة البرهان وتلمس الدليل، وتتبع الحجة أينما وجدت. تأمل قوله تعالى في قصة مريم وقد احتار القوم في أمر وضعها: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً}.
5- أهمية المشكلة أو المسألة في الدروس: من المؤكد أن الطفل لا يعمل فكره إلا إذا وجد ما يدعو إلى التفكير، لذلك كان أول ما تعنى به التربية الحديثة إيجاد ما يتمشى مع جهد التلميذ وسنه واستعداده وخبراته وميوله من مسائل فعلية ومشكلات تفكيرية، وترويضه من أول الأمر على حل المشكلات المدرسية حتى يتدرج منها إلى مجابهة المشكلات العامة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية حيث يتعاون الأفراد والجماعات على حلها.
والمشكلة كما يقول ديوي (حالة حيرة وشك وتردد تتطلب بحثاً أو عملاً يُجرى لاستكشاف الحقائق التي تساعد على الوصول إلى الحل). وفي حل الإشكال نراعي وجود خطوات تساعد التلميذ على ذلك الحل، وهذه الخطوات قد فصلها جون ديوي في كتابه (كيف نفكر) ويمكن تلخيصها في الآتي:
أ- الشعور بالمشكلة.
ب- تحديد المشكلة.
ج- افتراض الحلول المحتملة.
د- اختبار صحة هذه الحلول عن طريق التعليل الاستثرائي.
هـ- القطع بصحة الحل الراجح بوساطة الملاحظة والتجريب من جديد وتطبيق الحل الجديد بالقياس ومن ثم قبوله أو رفضه والاعتقاد بصحته أو بخطئه.
والشعور بوجود المشكلة يتطلب من المدرس أن يكون درسه جديداً يتناول موضوعاً جديداً شائقاً، ونقطاً جديدة واضحة.
أما تحديد المشكلة فيتطلب منا تحليل الموقف وجمع المعلومات اللازمة وترتيبها، وتنظيم كتلة المعلومات القديمة، وتهيئة العناصر الإدراكية.
والمهم في عملية التدريس أن يكون عند المربي إلمام بكل العناصر اللازمة لبحث هذا الموضوع وسلسلة الموضوعات المرتبطة به وأن يحصرها ويجمعها بنفسه كلما أمكن وهذا هو أساس كل الطرق الحديثة، وهي ترمي إلى جعل الطفل عنصراً فعالاً في بيئته، وجديرٌ بنا أن نعوّد الطفل منذ البداية الاعتماد على نفسه في التحصيل والنقد والابتكار.
ومرحلة افتراض الحلول المحتملة تتطلب من المعلم إعداد الأسئلة الممكنة للدرس، وأن يقدر جميع الأجوبة الممكنة على السؤال، أي أن يفكر المعلم في جميع الإجابات المحتملة حتى لا يضطر إلى إهمال إجابات ربما تؤدي إلى حلول صحيحة للموقف.
أما اختبار الحل والتحقيق فهما يتطلبان منا أن نفهم أن الفكرة الصحيحة لا تكون صحيحة إلا إذا أثبت التطبيق صحتها، فلابد للفكرة حتى تثبت:
- أن تقلب من جميع أوجهها، وتطبق تطبيقات مختلفة، وتجرب بنتيجتها الأخيرة على أشكال مختلفة وفي أوضاع متغايرة.
- ويستطيع المدرس أن يجعل دروسه وسيلة لتنظيم التفكير إذا حث التلميذ في كل درس على تبين الغرض الذي يرمي إليه هذا الدرس، إذ إن العقل في التفكير يتتبع الغرض الذي يرمي إليه - وهذا ميسور إذا وضع الدرس للتلميذ في شكل مشكلة أو عدة مشكلات يراعى تدرجها من السهولة التامة إلى التعقيد حتى يصلوا إلى حقائق وأفكار صالحة تنمي مواهبهم مع بذل أقل مقدار من الزمن والجهد.
وضعية الانطلاق في الرياضيات
إن تعلم الرياضيات في حد ذاته، كما هو في التربية الحديثة، مدرسة مستقلة:
- تنمي الشعور بالثقة بالنفس.
- تزرع في الطفل الدقة والضبط.
- تعلمه النزاهة والصدق والصبر والنظام في العمل.
وبما أن مادة الرياضيات لا تقبل الحل الوسط كغيرها من المواد فإن الطفل إذا ما أفلح في حل مسألة رياضية فإنه سيصل إلى الشعور بالرضا، وتزداد ثقته بنفسه وبإمكاناته، ويتعلم أنه لا سبيل إلى الحل إلا بالصبر والمثابرة والعمل المنظم واستغلال المكتسبات السابقة.
ما هي وضعية الانطلاق في الرياضيات وما هي صفاتها؟
- عموماً هي معطيات معلومة ومجهولات يقدمها المعلم في قالب مسألة أو يشرك تلاميذه في تأليفها ويكون لها سؤال أو عدة أسئلة لها أهداف معينة يروم المعلم تحقيقها.
ولوضعية الانطلاق شروط من المفيد أن تتوفر فيها وهي:
أ- أن تكون مفتوحة: أي أنها تهيئ لنقاش ثري ييسر للأطفال إبداء آرائهم ويمكنهم من تصور طرق حلول مختلفة في أشكالها ومتحدة في نتائجها النهائية ومنها يختارون الأصلح والأنسب باعتباره يحقق الهدف بأقل مجهود وفي أسرع وقت.
ب- أن تكون واضحة: أي صياغة لغتها تكون بشكل ييسر الفهم على الأطفال دون عناء حتى لا يضيع الوقت في تحديد مفهوم ألفاظها وينصرف المجهود عما ينبغي أن يصرف فيه، وبإيجاز يجب أن تكون لغة الوضعية لا لبس فيها وغير قابلة للتأويل كي نجنّب الأطفال الدخول في متاهات لا تقود لما نريد.
ج- أن تكون هادفة: أن تهدف إلى غاية يروم المربي تحقيقها منها وبذلك يبتعد عن العموميات التي لا تمكن من دقة النظر وتركيز المجهود.
د- أن يتفاعل معها الأطفال على انفراد: أن يكون للأطفال دورهم في التعامل مع الوضعية قولاً وتحسساً وفعلاً دون توجيه مباشر من طرف المعلم أو تحديد بوجهة العمل أو ضبط لطريقته أو رفض لما يمكن أن يبرز من نتائج قبل تعليلها والوقوف بصورة واعية على الخطأ فيها.
هـ- أن يكون الزمن المخصص لها محدداً: أي أن تشغل الوضعي جزءاً من الحصة يسمح بترك مجالٍ لتقديم وضعيات للتدعيم والتثبيت.
و- أن يكون فيها ربط: أي أن يكون لها طرفان تربويان كلما أمكن ذلك:
الطرف الأول يصلها بما سبق للمراجعة والتذكير بالمكتسبات.
والطرف الثاني يشدها إلى اللاحق للتمهيد والتهيئة وبذلك يتحقق التكامل والترابط بين المسائل في المادة الواحدة.
ز- أن تكون عناصرها من محيط الطفل: أي أنه يجب على المربي أن يعير المحيط والوسط المحلي لفتة بحيث لا يجد الطفل غرابةً إذا كانت عناصر الوضعية من وسطه الذي يعيش فيه وبذلك يمكن له أن يستغل خبراته في الحياة إلى جانب مكتسباته العلمية للتفاعل معها بيسر.
حل المشاكل الحسابية
إن الحسابيات من بين المواد التي يطغى عليها الجانب العلمي المنطقي الذي تفرضه وحدة المادة وأسلوب البحث والتحليل ولو أن الآلية شيء لابد منه كوسيلة وأداة لإثراء القدرات الذكائية والمهنية وأنه من الحكمة تجنب آثارها السيئة قدر الإمكان حتى لا نقع في خطر السطحية في المعرفة، لذلك وجب عدم إهمال التحليل المنطقي في العلوم وتكوين المدارك.
والتحليل المنطقي يهتم بتجزئة الحقائق بحيث يفصل بعضها عن بعض بصورة استنباطية ومرحلية ثم يعود ويبنيها من جديد. وهكذا يبدو التحليل والتركيب عمليتين متكاملتين في الترتيب الموضوعي للمفاهيم وفقاً لما يربط بينها من صلات وعلاقات علمية.
والمعارف التي تحصل لدى الطفل بهذه الطريقة قوة ليس بعدها قوة إذ هي تحقق مفهوم التربية الصحيحة بالانتقال من درجة تلقي المعلومات إلى درجة اكتسابها ذاتياً، وبذلك فقط يمكن أن نقوي في أطفالنا القدرة على اتخاذ المواقف ومواجهة الأحداث الجديدة.
وإذا علمنا أنه لحل مشكل حسابي وجب اتباع مراحل ثلاث أساسية:
أ- مرحلة الفهم.
ب- مرحلة الاستنباط والتحليل.
ج- مرحلة الإنجاز الفردي.
مرحلة الفهم:
إن كل الأخطاء التي يقع فيها الطفل ناتجة في الغالب عن تسرع التلاميذ في قراءة نص المسألة، فإذا دربناهم على قراءة المشكل بانتباه فإنه يصبح من السهل عليهم الإحاطة بجوهر المشكل وإدراك معناه العام، وبعد القراءة يدرب التلاميذ على استخراج عناصر المشكل انطلاقاً من المعطيات تجسيماً للمرحلة التعبيرية من الدرس: وهكذا فإن أول سؤال يتبادر إلى الذهن بعد القراءة هو: عم يجب أن نبحث؟ وهنا يقف التلميذ على الغرض الذي يرمي إليه هذا الدرس ويعرف ما الذي ينبغي أن يسعى للوصول إليه. وهكذا نثير الكثير من النشاط العقلي الذي سيرشح بسهولة في أذهان التلاميذ ما توصلوا إليه بأنفسهم من نتائج.
مرحلة الاستنباط والتحليل
يكون الأمر ميسوراً إذا وقعت تجزئة المشكل إلى عدة مسائل بسيطة تراعي فيها منهجية التدرج من البسيط إلى المجرد، ومن السهل إلى المعقد، لأن عملية التحليل تستوجب تفكيك المشكل وتجزئته إلى أقصى حد ممكن وإلى أبسط جزء يتركب منه الكل ثم يجري البحث عن العلاقات الرابطة بين هذه الأجزاء.
مثلاً: إذا أردنا البحث عن التوفير السنوي لعامل ما فالسؤال المطروح هو: كيف سنبحث عن معرفة هذا التوفير؟
ويدفعنا ذلك حتماً إلى ضرورة معرفة الانفاق السنوي.. ثم على العائدات السنوية.
هل يذكر المشكل هذه النفقات وهذه العائدات؟
لنرجع إلى المشكل ونتأمل ذلك.
وهكذا يتسنى تنشيط كامل الفصل في البحث عن مفاهيم الموضوع. فالكل يفكر والكل مدعو إلى التعبير.
الإنجاز الفردي:
بعد إنجاز هذه المراحل يتولى التلاميذ حل المشكل المدروس أو مشكل آخر يماثله بإعمال الرأي وبذلك المجهود الشخصي وهكذا تكون المعلومات قد ثبتت في الذهن. وكما هو معلوم فإن التمارين الفردية ترمي إلى جعل الطفل يعلم نفسه بنفسه بخبراته الشخصية وببعض مجهوده الذاتي وتحت إشراف معلمه.
ملاحظة مهمة جداً:
وجديرٌ بالملاحظة أنه من الضروري أن يدرب المعلم تلاميذه على القيام بهذه المراحل شفهياً في بداية السنة الدراسية ولفترة محدودة، يدرك بعدها الطفل القيام بها بمفرده متفاعلاً مع الوضعية.
|