Thursday 9th September,200411669العددالخميس 24 ,رجب 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

مهلاً.. الأرض ليست للبيع مهلاً.. الأرض ليست للبيع
عبدالله بن ثاني (*)

آلمني كثيرا ذلك الإعلان (الأرض للبيع) الذي رأيته مسطرا في وسائل الإعلام المختلفة أو منقوشا على لوحة مثبتة في قلب التراب وكان الأولى اختيار كلمة مناسبة غير الأرض كالقطعة مثلا، فالتراب يرمز إلى استقلال الوطن والأرض إلى كرامة الإنسان، وقد جسد ذلك محمود المليجي في فيلم الأرض خير تجسيد، ولا أبلغ منه إلا البشرى التي حملها ربعي بن عامر لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في معركة القادسية المجيدة عندما حمله كسرى ترابا من أرض فارس ظنا منه أن ذلك إهانة له، ومن ذلك اليوم والشعوب المتحضرة تمنع جلب التراب أو الخروج به من أوطانها.
كما آلمني أيضا ما قرأته في وسائل الإعلام عن مخطط إسرائيلي يهدف إلى تهجير أهل النقب من أرضهم، لأنهم غزاة على حد رؤية ذلك المخطط وتعبيره عن طريق بلورته في قانون صادر من الكنيسيت الإسرائيلي بعنوان (إخلاء الغزاة) ، فتعجبت ضاحكا (رمتني بدائها وانسلت) ، من مصطلح الغزاة الذي أصدره هو ألصق به وهو أحق به في ظل تجاهل القرارات الدولية والتحدي الظاهر لكل المساعي الشريفة والمبادرات الحكيمة التي تؤكد أن العالم ليس عاجزا عن حل هذه القضية بأي طريقة كانت ولو كانت بإلزام عسكري دولي للأطراف المتصارعة بقبول الإرادة الأممية، فما لهم يفرضون الإصلاح والديمقراطية وتغيير الأنظمة الحاكمة في هذا الشرق الأوسط بالقوة ويعجزون عن حل مشكلة الإنسان الفلسطيني صاحب الأرض الأصلي، مما ذكرني بقصة وردت في الأغاني تتعلق بهذا السياق عندما يرمي المجرم ضحيته بذنبه ويصرخ أمام الجمهور مظلوما دون حياء إمعانا بالتهميش والمصادرة والاستفزاز والعنصرية، وهي قصة مقتل خالد بن جعفر بن كلاب على يد الحارث بن ظالم المري في بلاط النعمان بن المنذر الذي دعاهما، وقدم لهما تمرا، فطفق خالد بن جعفر يأكل ويلقي النوى بين يدي الحارث، فلما فرغ القوم قال خالد للنعمان أبيت اللعن، انظر ما بين يدي الحارث من النوى فما ترك لنا تمرا إلا أكله، فأجابه الحارث إن كنت أكلت التمر فقد ألقيت النوى، وأما أنت يا خالد فقد أكلته بنواه..
نعم صادر الغزاة كل شيء ولم يتركوا للعراة ما يسترهم، وأكل الطارئون كل شيء ولم يتركوا للجياع ما يسد رمقهم مع أن العرب تنازلوا عن جزء كبير من أرضهم أملا في الحل ومللا من النزاع. كان هذا المخطط أثناء إضراب ثمانية آلاف أسير فلسطيني منذ يوم الأحد 15 أغسطس في ثورة سلمية لرفع الظلم عنهم وتحسين ظروف اعتقالهم التي كفلتها جميع المعاهدات الدولية لحقوق الإنسان في معركة الأمعاء الخاوية من خلال الامتناع عن تناول الطعام فيما عدا الماء وبعض حبات الملح وكأسا من الحليب الممزوج ببعض المقويات وهذا لا يعد كسرا للإضراب، وفي حالة الرفض يجبرهم السجان على تناول ذلك الكأس عن طريق خرطوم في الفم والمريء فإن ضل طريقه إلى الرئتين فسيؤدي إلى الموت كما فعل مع اثنين من الأسرى في معتقل نفحة عام 1980م وهما علي الجعفري وراسم حلاوة وقبلهما مات عبدالقادر أبو فحم في سجن عسقلان 1970م وبعدهما حسين عبيدات 1992م وقد شهدت هذه الحرب الإرادية موت أم الأسير عمار الزبن في خيمة نابلس خارج السجون والمعتقلات وتحديدا في خيام التضامن التي أقيمت لأجلهم في فلسطين احتجاجا على عقاب فلذة كبدها بمدة تصل إلى 72 حكما مؤبدا على طريقة بوبي ساندز، وميكي ديفاين، وباتسي أوهارا الذين ناضلوا من أجل الحرية بأكثر الأسلحة استراتيجية وأشدها فتكا أمام الرأي العالمي حينما يزهد الإنسان المحبط في هذه الدنيا بسبب تعسف ما يدعوه إلى الغياب جوعا ولكنه باختيار الضحية، فالأول طرف متسلط، مدجج بالسلاح والعتاد والحديد والغاز المسيل للدموع والفيتو ومجرد من القيم والعدالة وحقوق الإنسان والطرف الآخر متمسك بالشرعية والقضية العادلة، ويكون الطرفان شاهدين على مقصلة التاريخ التي لم تشهد كائناته أنموذجا مماثلا لها في حكاية السجن والسجان خلف جدار يفوح برائحة العنصرية، ولم يبق للمعوزين سوى الاحتجاج كما احتج المهاتما غاندي (الساتياراها) فنجح في إبراز الوجه المظلم للاستعمار وتأليب الرأي العالمي ضده حتى لا يتفشى أكثر مما هو عليه على يد العصيان المدني من خلال فرض مصطلح المقاومة السلمية أو فلسفة اللاعنف وهي مقاومة تعتمد على الشجاعة الأدبية والوعي القومي وكان يردد (اللاعنف لا يعني الضعف) وتجلى دوره القومي في مسيرة الملح المشهورة احتجاجا على منع الحكومة البريطانية الهنود صنع الملح من ماء البحر، وبدأ الإضراب عن الطعام حتى الموت احتجاجا على سياسة التمييز العنصري ضد الهنود (طبقة المنبوذين) في دستور الانتخابات عام 1932م وتم له ذلك فألغي باتفاقية بونا عام 1948م بعد نجاحه في علاج مشاكل العرقية في الهند.
وكذلك فعل الزعيم الأمريكي الأسود القس مارتن لوثر كينج وزعيم جنوب إفريقيا نيلسون مانديلا وقبلهم البريطانية ماريون دنلوب عام 1909م حينما بدأت الإضراب احتجاجا على سياسة حق المرأة في الاقتراع ولم ينفع أمام جبروتها قانون القطة والفأر الذي أصدرته الحكومة البريطانية يسمح من خلاله بخروج السجين المضرب إلى أهله ثم تعتقله مرة أخرى.
إن الأسف كل الأسف في تصريحات وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي عندما قال على الفلسطينيين الإضراب حتى الموت متجاهلا بشاعة رؤية كائن يموت جوعا، وأعلنت هيئة السجون الإسرائيلية لمواجهة هذه الفضيحة حربا نفسية باستعمالها الأساليب التي استعملت ضد الأيرلنديين الشماليين في سجون السبعينات والثمانينات..
كل الحروب أيها السادة في هذا العالم تثبت فشل إنسان هذا العصر سياسياً، وكل القرارات الدولية الباهتة لا ترقى إلى مستوى قضية لو كانت في الزمن الأردوفيشي لوجد لها الإنسان الجاهل حلا دون حصار بالدم من الجهات الستة أو إضراب يغتال الشعور الإنساني على يد الإنسان بعد أن ضاق ذرعا بتفجير الخاصرة وتمزيق الأجساد وتكسير العظام وتفعيل الحرمان ليتلذذ بموت ضحيته جوعا، ولا زلت أبحث عن تفسير منطقي لمنزلة الإنسان في هذا الشرق الأوسط مقارنة بالإنسان الآخر وليس بعيدا عنا تلك المظاهرات الشعبية التي اجتاحت بريطانيا لسجن مربية أطفال إنجليزية في أمريكا بتهمة قتل طفل ترعاه لظنهم ببراءتها، وسقوط الرئيس الأمريكي جيمي كارتر في الدورة الثانية بسبب فشله في حل أزمة الرهائن في إيران ونسي الشعب الأمريكي جهوده في نزع فتيل الحرب بين العرب وإسرائيل في العالم تحت اتفاقيات كامب ديفيد الشهيرة، وسأقف هنا دون ذكر أمثلة من واقعنا المعاصر لحاجة في نفس يعقوب.. والله من وراء القصد.

(*) الإمارات العربية المتحدة


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved