لم يرق لأمريكا أن يخرج من الوطن العربي رأي مخالف لإرادتها ومخططاتها التي ترنو دائما إلى الهيمنة الكاملة على الشرق الأوسط الصغير والكبير، وإلى فرض أجندة الامبريالية الأمريكية، وتحقيق امبراطورية لم يشهدها العالم من قبل، وعندما خرجت الشعوب العربية بإرادة مخالفة لذلك خرجت الايديولوجية الأمريكية من عباءة الدولة المصدرة للتكنولوجيا والديمقراطية التي ترعى السلام، وظهرت أيديولوجية المستعمر التي تختفي خلف كل هذه الأقنعة، وهذه الأيديولوجية بقدر ما تتمتع من دراسات عميقة داخل العمق الشرق أوسطي، إلا أنها افتقدت أهم شيء في حساباتها وهو (إرادة الشعوب) وما يمكن أن ينجم عن إحساس هذه الشعوب بتقويض إرادتها الحرة التي كانت الى وقت قريب تحرك العالم دونما خوف أوحساب لأي ردة فعل من أي جانب، والآن أدركت هذه الأيديولوجية أنها لم تقم وزنا لهذه الارادة الحرة، وأيقنت أنها كانت مخطئة عندما تجاهلت ذلك، وأنها قد تخسر الكثير إذا لم يتم تعديل الوضع فتحولت الى اتجاه آخر في مشروعية تصرفاتها، ولكن تحت نفس المفاهيم وبنفس المنظور واختلف فقط التطبيق من حيث الادوات، فأصبح منطق الحوار هو القوة حتى لا يكون لدى هذه الشعوب أي أمل في محاولة الاعتراض عليها، وذلك بمجرد أن تناقش هذه الشعوب فارق القوة الظاهر البين بيان الشمس ظهيرة يوم صيف في كبد السماء، وبمجرد قناعة هذه الشعوب أن مبدأ لاقوة غير مستبعد، وأنه احتمال قائم لدرجة كبيرة جداً فإن أي تفكير في المعارضة يستبعد فوراً وحتى يتم البت في ذلك كان لابد من إعطاء مثل واضح لمن تسول له نفسه امكانية المناطحة أو المعارضة، وكان لابد أن يكون هذا المثل من نفس الواقع وبنفس الامكانات للآخرين، ويفضل أن يكون من عليتهم في مقومات الاعتراض، ولم يكن هناك أفضل مثلا من العراق الحر القوي عسكريا الناهض اقتصاديا واجتماعيا ولديه في فئات مجتمعه المثقفون والعامة والوسط بين ذلك، ولم تتردد هذه الايديولوجية في اتخاذ قرار استعراض قوتها وإبداء هيمنتها وسيطرتها على المقدرات في العالم كله، وبالذات أمام هذه الشعوب الحرة والتي بدأت تخرج فئاتها من تحت هذه السيطرة وضرب المثل ضربا موجعا مؤلما لكل فئاته حتى تفكك وانهار.
والآن تريد هذه الايديولوجية أن تعرف مدى تأثير هذه العبرة في الاعتبار والاتعاظ الذي من المفترض أن يكون قد تم في هذه الشعوب وخير ما يقيِّم هذا الاعتبار هو مثل آخر، ولكن هذه المرة يكون مثلا أصعب فتحولت أصابع الاتهام بنفس تهمها الى محور آخر من محاور هذه الشعوب، واتجهت الى سوريا، وكان ذلك فقط حتى يتم التأكد من أن هذه الشعوب قد تعلمت الدرس جيداً وأنها اتعظت من المثل السابق واعتبرت به، وعندما رأت هذه الأيديولوجية ان المثل لم يكن كافيا رغم إيلامه الشديد ودويه الصاعق لم تشأ أن تخسر خسائر مادية أخرى، وبالأخص انها لم تكن بالبسيطة ما بين أرواح زهقت وأموال أنفقت فاكتفت بالتهديد وفرض العقوبات المفروضة بالفعل منذ زمن بعيد وإلى الآن، ثم تحولت الى أداة أخرى بعد القوة وتحت القوة أيضا وهي الإصلاح السياسي، وذلك فقط لتحقيق وجود من يخدمون مصالحها الشخصية دونما أي اعتراض، وذلك لتوفير الجهود والنفقات خاصة، وأن القوة لم تكن بالفكرة التي تحقق ذلك سريعا ولكنها تحتاج إلى وقت طويل حتى يباد آخر رجل وآخر طفل في هذه الشعوب، وذلك أمل بعيد جدا وتغيير بعض الرؤوس قد يحقق ذلك دونما مجهود ونفقات لا نهائية.
إن الإصلاح السياسي في مفهوم الايديولوجية الامريكية ما هو إلا بمثابة وسيلة لتحقيق غاية معينة وهي تحويل العالم الى مسرح للدمى الخشبية، وكل الخيوط التي تحرك هذه الدمى الخشبية تكون في يد هذه الإدارة فعندها تضمن أن لن يكون هناك منافس لها على الصعيد العالمي، وأنها ستستمر وتدوم أبد الدهر طالما ليس هناك من يفكر في مناظرتها، كما أن هذا المفهوم يحقق تفعيل الامبراطورية الأمريكية ذات القاعدة العريضة أرضا وقوة وسيطرة.
لذلك ولكل ما تقدم فإن شرطي العالم لن يقبل أبدا أن تقوم لهذه الشعوب قائمة، أو أن يكون لهم حق تقرير المصير، لذا فمن الهذيان أن يتصور بعضنا ان الاصلاح السياسي سيكون له مردود إيجابي في أوطاننا حيث إن المراد منه ليس في مصلحتنا شعوبا أو قادة بل هو العكس من ذلك، وأننا بذلك نضع الخيوط في يد محرك الدمى بدلا من أن نحرر إرادتنا من يده، نحن نريد التغيير ولكن لا نريد أن يفرض علينا من الخارج.
|