كنت كلما هممت بالسفر، تذكرت رحلات (طه حسين) السنوية إلى (فرنسا)، مع زوجته (سوزان) التي أصرت على البقاء على دينها وعلى لغتها الفرنسية. وشدته بأمراس كتان إلى صُمِّ حضارتها، فكان بذلك إمام المتهافتين على (الفرانكفونية) يستقبل بهم شواخصها. وتذكرت انتقاءه لما يعن له من كتب أدبية أو فكرية أو إبداعية، والفراغ لسماع قارئه، وهو يترنم بالشعر على جبال (الألب)، ثم الخروج بجهد تأليفي، يكون ثمرة السياحة. وأهم معطيات تلك الخلوات المزعومة، ما تمخضت عنه تلك الرحلة التي صحب فيها ديوان (أبي الطيب المتنبي) دون أن يصطحب ما عنده من دراسات وشروح، كان قد ألمَّ بها في عامه الدراسي، لكيلا يعول فيما توصل إليه على شيء منها، ولهذا اقتصر جهده في كتابه (مع المتنبي) على الإملاء، لا يتوقف فيه إلا لضرورات الحياة. ولم يتردد في إهدائه إلى تلك الزوجة الصابرة المشفقة الراحمة - على حد تعبيره -. وسواء صدق فيما يدعي، ام لم يصدق، فقد جاء الكتاب مثيراً وممتعاً ومغالطاً في آن، لا تمل من قراءته، ولا تود مسايرته فيما يذهب إليه من قراءة ذوقية انطباعية، فيها شيء من التعنت والإصرار والتحامل. و(طه حسين) حين يقدِّم أعماله إلى الناس، لا يتورع عن اللعب بعواطفهم، وإثارة فضولهم، وشد انتباههم. ومن يقرأ الاستهلال لا يجد بداً من قراءة الكتاب، وأكبر الظن أنني قرأته مرة أو مرتين ومازلت أغالب الشوق إليه والشوق أغلب. وإذ يريد من كتابه غمط المتنبي، وتزهيد الناس فيه، فإنه أدهى وأمكر من صاحبه (القصيمي) الذي لا يتقي، ولا يداري، ولهذا طُويت كتبٌ كثيرة عن المتنبي، وبقي كتابه متداولاً، غير أن المفاجأة المثيرة ما خرج به تلميذه العنيد (محمود محمد شاكر) مدعياً أن (أستاذه) سرق كتابه عن المتنبي، كما سرق رؤية (مرجليوث) في الشعر الجاهلي ومنهج (ديكارت) في الشك.. ولأنني في أمر مريج من هذا الاتهام فإنني لم أكلف نفسي عناء الحصحصة، وإن كان فيها ما فيها من اغتلاب الارتياب؛ ذلك أن ما بين الكتابين مختلف جداً، فكتاب (طه حسين) تغلب عليه الانطباعية والإبداعية والمراوغة والتماكر والغمز واللمز، فيما تغلب على كتاب (شاكر) العلمية والتمحيصية والترجيحية بين سائر الأقوال.
وكتاب (شاكر) هو الذي نال به جائزة الملك فيصل العالمية، وما كان يومها حفياً باختيار هذا الكتاب دون ما سواه من كتب أنضج وأعمق، فكتابه عن المتنبي كان في شرخ الشباب، وكانت له كتب وتحقيقات تراثية تفوق ما كُتب عن المتنبي، ولهذا نقد لجنة الاختيار والتحكيم بإيماءة ذكية، وظن الناس يومها ان قوله هذا من باب التواضع أو المزاح، وما عرفوا أنه يعتب على لجنة التحكيم اختيار أقل كتب شأناً. والكتابان يلتقيان عند نقطة حساسة، تتعلق بنسب المتنبي، ثم يفترقان إلى أبعد حدود الافتراق، وما كنت معنياً الآن - على الأقل - بتقصي ما انطوى عليه الكتابان من آراء ممحصة أو مرتجلة، منصفة أو متحاملة، وبخاصة ما يتعلق بالنسب، والعقيدة، واضطراب المواقف، والمبالغة في كل أغراض شعره.
لقد اضطربت الأقوال حول (نسبه) و(قرمطيته) و(تنبئه) وحق لها أن تضطرب، ومازال فيها بقية لمريد. وما من متحدث عن (المتنبي) لا تثبِّت قواعده غزارة المعارف، ولا تكبح جماح عواطفه نوازع العدل والإنصاف، إلا ويكون مجال التندر والسخرية؛ فالمتنبي كالبحر اللجي، إن خضت في شاعريته أو في أخلاقه، أو في نسبه، أو في عقيدته، غرق زورقك، وتكسرت مجاديفك، ومن ثم لابد للخائض في لججه من الفلك المشحون بالمعارف. وما أكثر الذين يحسبون ورمهم شحماً وبعرهم درراً، لفظتهم أمواجه كالزبد الذي يذهب جفاء، وقليل من المتحدثين عنه قالوا ما ينفع الناس، فمكث كما تمكث البذرة في الأرض الطيبة، ترقب موسمها لتنشق عنها التربة بأطيب الثمار. وما أكثر ما ينتابني الشوق إلى الحديث عن (إشكاليات المتنبي)، وعن تعدد الرؤى حوله عند ناقديه في القديم والحديث، بحيث لا يكون التقصي رصداً إحصائياً وصفياً على شاكلة ما كتبه أستاذنا الدكتور (محمد عبدالرحمن شعيب) في دراسته الأكاديمية (المتنبي بين ناقديه في القديم والحديث).
وإذ يكتفي (القعيد الأعمى) بحمل كتاب لا يبرحه حتى يأتيه من أقطاره، فإنني ملول، لا أصبر على كتاب واحد، وليس من عادتي حين أبرح أرض بلادي أن أكتفي بما أحمله من كتب، وإنما اختلس شطراً من الوقت، وأزور ما تيسر من المكتبات، لأشتري منها أحدث الإصدارات في مختلف المعارف، ثم أطويها قراءة عجلى، تأخذ كل مستويات التلقي، فإذا اكتشفت في شيء منها تسطحاً أو ادعاء، تركتها حيث أقيم، مع ما يتركه كل مبارح من نفايات، محتسباً أجر الجهد والمال والوقت على الله. ولا يدخل في القبول أو الرفض اختلاف الآراء، فما كنت لأحفل بشيء حفولي بالذين يتحدون إمكانياتي، وما استأت من شيء استيائي من جهد قرائي لا يضيف إلى معارفي معارف، أو لا يضطرني إلى التحيز أو التحرف أو إرجاع البصر مرة أو مرتين لاختراق أجواء الكاتب الفكرية. وكم تخادعني العناوين وجودة الاخراج، فأنخدع، ودور النشر تبدع في ذلك، ومن ثم يقع في حبائلها الذين لا يعدلون بالكتاب شيئاً:- (وخير جليس في الزمان كتاب). وكم من كاتب متسطح لا يؤبه به، نفذ من خلال خداع العناوين وحسن صناعة الكتاب، مستخدماً جرأة بعض الناشرين. وها نحن نسمع بين الحين والآخر عن إصدار دراسة أو مجموعة إبداعية: شعرية أو سردية خارج البلاد، ويكفي المؤلف أو المبدع أن يقول: طبع لي كتاب في (بيروت) أو في (المغرب)، وكأن دور النشر في بلادنا زامر حي لا يطرب.
وفي كل مكتبة أدخلها أسأل صاحبها عن أحدث الكتب في مختلف الفنون والمعارف، فيتبادر إلى ذهنه أنني (معارض سياسي)، وأنني أبحث عما يتناول سياسة بلادي ورجالاتها، ومن ثم يركم أمامي هذا النوع من الكتب المغثية، فلا اجد حرجاً من استعراضها، فإن وجدت فيها ما يفيد، اشتريت منها ما أريد. ورحم الله من تطوع بإهداء عيوبنا إلينا.. (ويأتيك بالأخبار من لم تزود).وإن لم أجد ما يفيد تركتها حيث هي، وفرغت لتصحيح مفهوم الكتبي عما تعدو إليه عيني. فأنا أبحث عن كتب الفكر والسياسة والمعاجم والموسوعات الحديثة ومذاهب النقد الأدبي الحديث: تنظيراً وتطبيقاً. ولست معنياً بمن معي أو ضدي في الفكر والسياسة والأدب، المهم أن أجد قدرة في التناول، وغزارة في المعرفة، ووعياً عميقاً للظواهر والمذاهب والتيارات وانضباطاً منهجياً. وآخر ما أفكر فيه أن يكون المؤلف معي، بل ربما لا يعنيني من هو معي. وقد تنشئ هذه الرغبة جدلاً بيني وبين صاحب المكتبة، بحيث يمضي مع الريح، حسبما يتوافر عنده من معلومات تعجل في تجميعها عما تهواه نفسي. وما كان لي أن أضيق ذرعاً بما يتشكل عنده من انطباعات، وما تستند عليها من أقوال، فما هي إلا ساعة، ثم لا أراه بعدها. ولربما يكون هواه قومياً أو علمانياً أو وجودياً أو إسلامياً، وقد لا يكون مسلماً. وأسوأ ما يكون عندي حين يحترف السياسة، ثم لا يكون مدده إلا ما تضخه القنوات الفضائية أو ما تتدفق به أنهر الصحف السيارة. مع حماسه وانفعاله، لا يدع المداراة التي قد تصل حد المداهنة، لكيلا يخسر صيداً ثميناً، تفوح رائحة النفط من بين إبطيه. وحكايتي مع المكتبات حكاية تطول، وتتشعب، وعندي أمل في تقصيها، ففيها بعض الفائدة، وكثير من المتع. ولقد تحدث الكتبيون عن همِّ الكتاب، فأمتعوا عشاقه.
تذكرت (المتنبي) ومن حوله يوم أن عدت إلى شرفة السكن في منتجع (بلودان) متأبطاً بما ظفرت به من كتب، هارباً بجسمي عما يفيض به ذلك المصيف الريفي الجميل من السواح الخليجيين، الذين لا يدعون لك فرصة التمتع بالمناظر ولا التسوق في المعارض؛ فالنساء والأطفال والشباب والشيوخ يسرحون ويمرحون جيئة وذهاباً، ومن ثم لا تجد بداً من الخلوة في تلك الشرفة المطلة على الأودية الخضراء والجبال الشاهقة، ومن حولك ما تود قراءته من كتب مثيرة. لقد ظفرت في أولى جولاتي بثلاثة كتب ل(القصيمي) هي:-
- العرب ظاهرة صوتية.
- هذي هي الأغلال.
- عاشق لعار التاريخ.
كان الأول قد فقد من مكتبتي، والآخران لم أحصل عليهما من قبل. قلت في نفسي: هذا هو الوقت المناسب لاعادة قراءة القصيمي، بعد انقطاع طال أمده، فلقد عرفته قبل أربعين سنة، وأنا يومئذ في (الكويت) كان ذلك في عام 1965م حين اشتريت أنا وأحد الزملاء كتاب (العالم ليس عقلاً) في طبعته الأولى، قبل أن يجزأ إلى ثلاثة كتب، على ما أذكر، وكانت تلك الطبعة قد صدرت قبل ذلك الوقت بثلاث سنوات، قرأناه بعد حل حبكه وتبادله أوراقاً مفرقة، وكلما فرغنا من قراءة ورقة، مزقناها، وألقيناها في اليم، ظنَّاً منَّا أننا بذلك نئد فكراً مناهضاً للإيمان. ومن بعد هذا نقبت في البلاد عن مؤلفاته، كلما ألقتني المناسبات أو المهمات في (بغداد) الرشيد، أو في (قاهرة) المعز، أو في (دمشق) الأمويين. ولم يند عني من كتبه إلا القليل، ولما قرأت كتابه (الكون يحاكم الإله) أحسست بأن الأمر بلغ دركه، وأنه لم يعد بالإمكان احتمال ما يقول. وإذا كان اليهود قد تجرؤوا على القول بأن:- (يد الله مغلولة)، فإن القصيمي قال ما هو أسوأ من هذا، غير أني لم أجد بداً من ترويض نفسي على قراءة المخالفين أو الاستماع إليهم، ما دامت نواصيهم بيد الله، وما داموا لا يعجزونه، وما دام انه لو شاء لهدى الناس جميعاً، وما دمت قادراً على منازلتهم، وكشف إلحادهم. وسلفي في ذلك (ابن تيمية) الذي جالد غلاة الفرق، وجدل المناطقة، وسفسطة الملاحدة، وخلَّف تراثاً لم يسلم من أغيلمة القنوات اللجوجين، وقنافذ الصحف الهداجين، ومواقع المعلومات والمنتديات المخجلة. والذين ينقمون على الغيورين على محارم الله الصادعين بما أمروا به، لا تحين منهم التفاتة واعية منصفة إلى المتجرئين على محارمه، المنتهكين لحدوده. وكأني بمثل هؤلاء يطلبون التخلي عن الثغور وإلقاء السلاح من طرف واحد. والمنصف من إذا أراد أن يفك الاشتباك، ويصلح ذات البين، أن يقف على مقولات كل الأطراف وأفعالهم، وأن يعرفهم بمقترفاتهم، وأن يحمَّل كل طرف جرائره. فالعدل والإنصاف يقتضيان سماع الدعوى والدفاع، والحَكم العدل مَنْ لا يحكم لطرف عند غياب الطرف الآخر. وما أكثر الذين يخدعهم معسول الكلام، فيظنون الاستسلام سلاماً، والضِّعة تواضعاً، والاتكال توكلاً، وما أكثر السذج ومثقفي السماع الذين يحسبون كل صيحة عليهم، حتى لقد طال الرعب ثوابتهم، فكان كل قول في الدين عندهم مؤشر تطرف وبداية إرهاب. ولو أتيح لدعاة الخنوع متابعة ما تطفح به كتب المتطرفين من علمانيين وطائفيين، لما وسعهم إلا أن يصدعوا بالحق، ويعرضوا عن الجاهلين. ومن الضعف والضعة القبول بالتعايش من طرف واحد، وذلك ما تريده دول الاستكبار وغطرسة القوة وشراذم التسلط. وإذا طلب منا الجنوح للسلام فإن شرطه أن يجنح الآخرون إليه، أما أن نترك للمتجرئين على المحارم حرية القول، ونعد ذلك من باب التسامح والوسطية، فذلك الخطأ بعينه، والتقصير نفسه.
|