يتأسس كل نشاط بشري على قاعدة فكرية تسوغه أخلاقياً وعمليا. والنشاط السياسي الإجرامي (الإرهاب) يقوم أساساً على الفكر المتطرف، فالتطرف يترسخ في العقل ثم ينتقل إلى السلوك كعنف. والعقل بدوره يتشكل من خلال التربية والتنشئة الاجتماعية، رغم أن العنف ظاهرة مركبة يتداخل فيها شبكة من عوامل تتغير وفقاً للمكان والزمان. والتطرف هو فكر متحجر يتوهم احتكار الحقيقة ويرفض الاختلاف والتعددية، ويستسهل الألفاظ والمصطلحات الغليظة كالخيانة والكفر والعمالة.. الخ. وفي هذه المرحلة التي ينشط بها الإرهاب عالميا ومحليا، يكون ضروريا تشريح وتفكيك العنف من عدة أصعدة: سياسية وثقافية وتربوية وأمنية واقتصادية واجتماعية.. الخ.
التعصب، إذن، يمنع الذهن من التفكير الحر، محيله إلى أداة قمع وإكراه ورفض للحوار مع الآخر، منتقلا بعد ذلك إلى سلوك عنيف في التعامل مع المخالفين فكرياً، كالتعرض لهم بالقوة الجسدية، وقد يتطور هذا السلوك العدائي إلى تنظيم إرهابي يبيح لنفسه ممارسة ما شاء من التعديات على حقوق الآخرين أو حياتهم. وقد يتمادى الإرهاب إلى وحشية مريرة حين يتحول إلى مجرد حقد اعمى يتربص بالضحية ولا يكفيه قتلها كضحية معركة بل إلى التمثيل بها محولاً فكره الإرهابي إلى كراهية محضة لذات الضحية أو العدو، هادفاً إلى تمريغ ما وراء هوية الضحية وإلى ترويع الآمنين بمشاهد همجية ليتحول الفكر الإرهابي هنا إلى ايديولوجيا دموية محضة، تمارس القتل لأنها لا تعرف طريقا آخر للمواجهة.
وقد تبدو بعض مظاهر العنف بريئة في بعض الثقافات الفرعية في مجتمعنا عبر قيم كثيرة تمجد القوة والشجاعة المفرطة أو العنيفة وتحض عليها؛ فيشب الصغار، وقد تسلحوا بكمية هائلة من المسوغات التربوية المؤيدة للعنف، تسهل عليهم مهمة توظيفه في الأنشطة اليومية؛ لذلك قد يسهل انضواؤهم إلى منظمات الإرهاب إذا توافرت بعض العوامل الأخرى. ويمكن تصور أن المجتمعات المفتقرة لرحابة النقاش ومداولة الفكر وقنوات الحوار تنتج فكراً ضحلاً متعصبا قد يكون أرضية خصبة للعنف ومهداً مناسباً لبذوره.. وعبر ما ذكر تتكون العقلية الانفعالية التي تعتمد على العاطفة الهوجاء، وغير السببية أي تستند على أسباب غير مرتبطة بواقع المسألة، وغير العقلانية التي لا تربط بين المعطيات والنتائج.
وقد نجد في تعامل ثقافتنا مع الآخر أنه في بعض حالاتها تقوم التنشئة الاجتماعية والأسرية على التركيز على الحقد والكراهية والانتقام من الطرف الآخر، أكثر من الحوار وإدارة الاختلاف وديا. والطرف الآخر ليس بالضرورة خصما أو عدوا أجنبياً، بل قد يكون فردا أو أسرة أو مجتمعاً أو دولة. ونلاحظ ،مثلاً، أن أول ما يتبادر لبعضنا من مشاعر نحو الغرب هو الكره، رغم أن الحضارة المدنية، من صناعية وعلمية وخلافها، في هذا العالم قائمة على أسس غربية. فالتركيز على الحقد وثقافة الشتم قد يتأصل في ذات المجتمع والفرد وتصبح من أنماطه المعتادة في التعامل، فيستمرئ بعض أفراده العنف تجاه بعضهم البعض.
ومن ناحية أخرى، تعد الطفرات الاجتماعية أحد بواعث العنف، عبر التغيرات التي يتم على أثرها هدم بعض جوانب المجتمع القديم وبناء مجتمع جديد، وما يتضمنه من توترات قيمية وسلوكية تنجم عن زيادة الحراك الجغرافي الاجتماعي والمهني لقطاعات واسعة من المواطنين، هذا إلى جانب زيادة تعرضهم للمؤثرات الحديثة كأجهزة الإعلام والاتصال وخلافها. ويعمل تفاقم الهجرة من الريف والصحراء إلى المدن على زيادة الحراك الاجتماعي اضطرابا، نتيجة اغتراب أفراد المجتمعات التقليدية والبحث اليائس عن هوية مفقودة في زحام المدن المنخرطة في عملية التغيير والتحديث، فينزع البعض إلى الجمود حفاظا على الهوية القديمة والتقوقع حول جذور ميتة خارجاً عن طريق المستقبل.
كيف يمكننا تفكيك أرضية العنف والتطرف؟ سؤال عريض فضفاض ومعقد يستدعي أسئلة أخرى وإحالات عديدة وشبكة إجابات مفتوحة ومتداخلة.. فلا يمكن طرح الحلول في عجالة مقالة، بل التلميح لأهمها، ويأتي في المقام الأول التأسيس المعرفي لمفاهيم الحوار والتعددية، وتكريس العقلية التوثيقية حيث تكون المعلومات الموثقة والحقائق المادية هي المادة الخام لهذه العقلية.
ومن جملة مواجهة التطرف والعنف، يكثر هذه الأيام في بلادنا التطرق لإصلاح المناهج وتطويرها، ولذلك أهمية بالغة، إنما ذلك وحده لا يكفي لتهيئة مناخ تعليمي أفضل، بل ينبغي أيضاً مراجعة أداء المعلمين؛ ذلك أن الكتب المدرسية لا تنطق بل تُنطَّق، فبعض المعلمين يحقن الطلاب بأفكار خلافية أو مشبوهة بطريقة عمياء ودون نقاش.. إضافة لذلك، فإن الأنظمة التربوية والأنشطة المدرسية تحتاج لمن يتابعها ويتأكد من حسن تطبيقها. فالنشاطات المكملة للمنهج كالتوعية الإسلامية حدّد لها النظام طرائق واضحة وصريحة وأهدافا رائعة وقيما دينية سامية عظيمة وفقاً للشريعة السمحة، ولكنها تفتقر للمتابعة الحثيثة والميدانية لطريقة تنفيذها. فقد تستغل المحاضرات والزيارات والاجتماعات ودروس التقوية والرحلات الكشفية والمراكز الصيفية لمآرب أخرى غير ما نص عليه النظام الذي يتوخى الفائدة الدينية والدنيوية والترفيهية للطلاب. وقد ذكر بعض الذين لهم باع طويل في مجال التربية، أنه يحدث أحياناً أن كثيراً من القيم الإسلامية العظيمة التي نص النظام على التركيز عليها كأداء الشعائر الدينية والتعامل مع الآخرين من بر الوالدين ومعاملة الأصدقاء والخصوم بالحسنى يتم تغييبها مقابل التركيز على جوانب معينة ومهمة من الدين كالجهاد والولاء والبراء، وكأن الطلبة ذاهبون إلى معركة! أو كأنهم في معسكر حربي وليسوا في مدرسة.. وهنا قد يتم إقحام أفكار متطرفة وتأويلات سياسية عنيفة في عقول الطلاب.
وفي هذا السياق لابد من مراجعة أداء وطريقة عمل بعض المؤسسات التربوية والدعوية والخيرية والإعلامية وطريقة ترويجها لخطابها الديني المتطرف في ظل غياب الثقافة المنهجية وحركات الإبداع الثقافي والأدبي والسياسي المدنية. كما انه لابد من مراجعة برامج التنمية وتحسين ظروف المعيشة لمواجهة التأثيرات الجانبية السيئة للتغيرات الاجتماعية الحادة، خاصة تنمية الريف لتخفيف الضغط على المدن وما يتولد عنه من ترييف المدن وتشويه التحديث واغتراب وصدام اجتماعي ونكوص ماضوي.
غاية القول، أن الأجهزة الأمنية مهما بلغت من القوة والتنظيم والكفاءة فهي وحدها غير كافية لمكافحة هذا الإرهاب. فمواجهة العنف مسئولية الجميع: البيت، المدرسة، الشارع، المسجد، الإعلام، وجميع مؤسسات المجتمع الأخرى.. الخ؛ إذ أن الأجهزة الأمنية تقوم بالعلاج المباشر حال أو قبيل وقوع الحدث بينما المؤسسات الاجتماعية تقوم بمهمة التوعية والوقاية على المدى الطويل والمتوسط. وتحتاج هذه المهمة للمصارحة والمكاشفة والنقد الذاتي لمؤسساتنا وتحليل الأسس التي يقوم عليها الإرهاب.
|