Monday 6th September,200411666العددالأثنين 21 ,رجب 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

الحبر الأخضر الحبر الأخضر
أرسل حكيماً..
د. عثمان بن صالح العامر

الشعار في بعده اللفظي هو: اختزال لرسالة ذات دلالات عميقة وإيحاءات جزلة ولدتها تجارب الأيام وصاغها عراك الحياة، أو قل هو: عنوان لمقالة بليغة تتضمن رؤى وأفكارا رائدة وموجهة. وكما أن للشركات والمؤسسات علامات تجارية هي بمثابة الشعار الذي تعرف به ربما أكثر من اسمها الأساس، سواء أكانت رسوماً رمزية أو حروفاً أبجدية عربية كانت أو حتى أجنبية، فإن لبعض الساسة والقادة وأصحاب الشأن وأهل الحنكة والدراية ورجال الفكر وأصحاب الأقلام كلمات وأقوالا موجزة اتخذوها أو اتخذت من بعدهم شعاراً.
ولمعالي وزير التربية والتعليم في المملكة العربية السعودية أ. د. محمد بن أحمد الرشيد شعارات تربوية عدة أجاد سبكها وبيّن مضامينها، وكان لها أثرها ودلالاتها في الميدان، وهو في هذا العام اتخذ للقائه بوكلاء الوزارة ومديري عموم التربية والتعليم في المملكة العربية السعودية شعاراً جديداً يتناسب والظرف الذي تمر به بلادنا -حفظها الله-، اقتبسه من المثل المشهور في تراثنا العربي (أرسل حكيماً ولا توصه)، والمعروف أن الحكيم هو الذي يتصرف في المواقف المختلفة بروية ودراية، يحكم عقله ويتعامل في أحلك الظروف بهدوء تام بعيداً عن التشنج العاطفي والانتقام للذات، ومن أهم صفات الحكيم أنه يحسن فهم الأمور جيداً، ويستشرف العواقب، ويدرك التبعات، ويجيد وضع الشيء في موضعه، ويملك زمام نفسه، ويضبط خلجات قلبه وفلتات لسانه في الأحداث التي يولدها حراك الزمن مدا وجزرا.. إنه لا يستبد برأي ولا ينفرد بقرار، بل يستشير أهل الاختصاص وذوي الخبرة ليضيف إلى عقله عقولاً، ويقبل الحوار وينفتح على الآخر بحثاً عن الحكمة (والحكمة ضالة المؤمن آنى وجدها فهو أحق بها)، وهو في مسار حياته كلها متفائلاً، محباً للجميع، متوكلاً على الله، يسعى إلى تحقيق الألفة مع بني الإنسان، وغرس بذرة الخير في النفوس، تلحظه دائماً ميالاً إلى الاحتواء لا الاصطدام، إنه يعرف فن القول ولذا فهو يحدث الناس بما يعقلون، وهو يملك قدراً كبيراً من الانسجام مع ذاته ولذا يتفق ظاهره مع باطنه.
ومن أهم سماته التي ينفرد بها أنه يقارن بين المصالح والمفاسد فيقدم ويؤخر حسب تنوع الزمان والمكان، وبناء على اختلاف المدارك والافهام وتباين الظروف والأحوال، بل يستطيع ان يضبط معيارية الكفتين حين تتعارض مصلحتين قائمتين فيقدم المصلحة العامة الغالبة على المصلحة المرجوحة متى ما كانت تتفق ومضامين الشريعة الإسلامية الحق، وهو جزماً لا يجعل لمصلحته الخاصة وزناً في مقابل المصلحة العامة مهما كانت الظروف، وتمكن من ذلك بعلمه اليقيني ان رقابة الآخرين غائبة {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}.. لقد شدد معاليه على وجوب اختيار الحكماء ذوي النظر الثاقب والبصيرة الواعية لكل عمل تربوي قيادي في الإدارة المدرسية والإشراف التربوي وتأليف الكتب وتقويم المناهج ووضع الاختبارات.. وحث على البحث عن أصحاب الكفايات والمتألقين في شتى الميادين والكشف عن الموهوبين وإعطائهم ما يستحقون من العناية والاهتمام.. إنني اعتقد جازماً أن الكفايات الأساس للعاملين في الميدان التربوي والتي عناها معاليه، هي: (إخلاص النية، واستشعار المسئولية، والقوة العلمية والمعرفية، والأمانة بمفهومها الشمولي، والحكمة بمضامينها التربوية)، ومتى وجدت هذه الكفايات الخمس فسيتحقق العدل التعليمي وستكون الموضوعية وسيسود الائتلاف لا اختلاف بين مَنْ هم في الميدان.
إن اختيار الحكيم من قبل القائمين على أمر التعليم امر هام جداً، بل هو من أهم ركائز البناء التنموي السليم؛ إذ أن العاملين في مدارسنا يتعاملون مع فلذات أكبادنا ذكوراً وإناثاً تعليماً وتهذيباً وتأديباً باختلاف ظروفهم وتباين عقولهم وتنوع واقعهم، ومتى غابت الحكمة فإن الأثر التربوي سيكون في الغالب الأعم سلبياً أو على الأقل محايدا. لقد جعل الله عز وجل لبني الإنسان رسلا اصطفاهم للتبليغ والتربية والتعليم وسياسة الدنيا، ولعظم المهمة ولمشقة المكابدة في بناء الإنسان كان لكل نبي برنامج تدريبي شاقي ومضنٍ، إنه ترويض الغنم في البرية والتي فيها ومن بينها المتردية والنطيحة وما أكل السبع و... فما من نبي إلا ورعى الغنم حتى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- كان يرعاها بقراريط لأهل مكة، ولك أيها القارئ أن تربط بين المهمة الشاقة التي كلف بها رسل الله وبين مكابدة ضبط القطيع ورعي الأغنام بحكمة وأناة.. إن مدارك بني آدم تتباين وهممهم تختلف ورغائبهم تتنوع وتعليمهم يحتاج إلى دربة ودراية، ولا يكون ذلك إلا للحكيم.. إن في الميدان التربوي اليتامى والمحتاجين، ومن بين طلابنا المراهقات والمراهقون وذوو الطبائع الصعبة والسلوك الشين، وفي قاعاتنا الدراسية أصحاب الفهم السقيم والنظرة الخاطئة للدين، وعلى مقاعدنا من يعيش انفصاماً في الشخصية أو انه يمر بظروف نفسية وأسرية صعبة ذكراً كان أو أنثى، بل إن في المعلمين والعاملين من لا يكترثون بواجب ولا يؤدون أمانة علقت في أعناقهم باختيارهم، ويعتبرون التدريس وظيفة وليست رسالة سامية قام بها أنبياء الله من قبل، وحمل لواءها من بعدهم علماء الأمة ودعاتها، وهؤلاء جميعاً وغيرهم كثر بحاجة ماسة إلى إدارة حكيم، فلنفتش عن الحكماء أيها العقلاء.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved