ما أجمل وأروع أن تتاح للمؤمن فرصة تشدُّ فيها الرحال إلى الحرمين الشريفين: الحرم المكي حيث بيت الله المحرَّم الذي يتجه إليه المسلمون أينما كانوا في صلواتهم المكتوبة والنافلة، وحيث الرحاب الطاهرة التي شهدت نزول وحي رب العالمين على خير خلقه أجمعين، والحرم المدني حيث مثوى هذا النبي الأمين الذي بلغ الرسالة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، وحيث قامت أول دولة إسلامية تحقق في ظلِّها أعدل حكم عرفته البشرية.
بدأت الانطلاقة إلى تلك الرحاب والهدف المنشود من مسقط الرأس، ومهد الطفولة، ومرتع الصبا، ومسرح الشباب، وحلم الكهولة: عنيزة الفيحاء، التي قضيت فيها أكثر أيام الإجازة الصيفية متمتِّعاً بكل ما اشتملت عليه من جمال، ورافلاً بأثواب مودّة أقارب وأصدقاء أعتز بصداقتهم كل الاعتزاز. وكانت سعادتي غامرة وأنا مرتاح إلى جانب ساعدي الأيمن، ابني الدكتور صالح، وهو يقود السيارة حاملة أفراد الأسرة الصغيرة.. أمتِّع نظري في كلِّ ما يمتد إليه من مناظر الوطن الجميلة الحبيبة إلى القلب عبر الطريق المزدوج من القصيم إلى طيبة الطيّبة.
وما إن لاحت معالم المدينة المنورة حتى ازدادت السعادة عمقاً، وانطلق الشوق إلى المسجد النبوي يسابق السيارة المنطلقة إلى رحابه، ولو وُفِّقت الجهات المختصة هناك إلى وضع علامات عند كل إشارة مرور، أو منعطف طريق، تبيَّن للمتوجه الطريق إلى المسجد لكان له في هذا راحة، ولنال أولئك المختصين ما نالهم من دعائه بمزيد من التوفيق. لقد كان الأجدر أن توضع تلك العلامات فور تعبيد الطرق مباشرة. ذلك أن أكثر القادمين إلى المدينة هدفهم زيارة المسجد النبوي والصلاة فيه، ومن ثم زيارة قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولأن غالب هؤلاء ليسوا من سكانها، أو المتردِّدين عليها كثيراً، فإنه يصعب عليهم معرفة الطريق الأنسب إلى ذلك المسجد.
برؤيتهم كتابة لشارع يحمل اسم فلان من الناس أو مكان من الأمكنة وتسهل تلك المعرفة إذا وجدت تلك العلامات المشار إليها. وجدير بالمختصين المعروفين ببذل ما يستطيعون من جهود أن يسارعوا إلى القيام بما يرشد السائرين، فيريحوهم وينفعوهم.
وفي المسجد النبوي تقرُّ العين، وتطمئن النفس، وتتعمَّق مشاعر الإيمان، وتزداد الآمال في رحمة الله وغفرانه. ولقد يُسِّرت فيه كل الوسائل التي تساعد على تحقُّق كل ما ذكر. فهنيئاً لمن يسَّرها على توفيق الله لهم بتيسيرها، وهنيئاً لمن وُفق للتمتع بما يُسِّر.
وما أسعد الروح بالسلام على نبيِّ الهدى وصاحبيه، أبي بكر الصديق وعمر الفاروق، والدعاء لهم، وسؤال الله - سبحانه - أن يجمعه بهم في جنات رضوانه. وتتوالى مشاعر السعادة والغبطة الغامرتين ليجد المرء نفسه متجهاً إلى الروضة الشريفة يصلي فيها ركعتي سنَّة. ومن المؤمنين من يدفعهم الشعور الذاتي إلى الجلوس هناك بعد أداء الركعتين، داعين متباركين. لكنهم - مع التقدير لمشاعرهم الجيَّاشة النبيلة - لم يدركوا أنهم بجلوسهم يحرمون إخواناً لهم آخرين لا يجدون مكاناً يؤدون فيه الركعتين المذكورتين. وفي هذا الحرمان ما فيه من عدم إنصاف لأولئك الإخوان. وكم يود المرء لو كثَّف المسؤولون جهودهم لإرشاد أولئك الجالسين غير العادلين بحق إخوانهم الذين يتوقون مثلهم إلى أداء ركعتي السنة في ذلك المكان الطاهر فلا يجدون محلاً. والثقة مؤكدة بأن لدى أولئك المسؤولين من الحكمة والإدراك والقدرة على تحقيق ما فيه مصلحة جميع المؤمنين.
وبعد أن تحقَّق ما تحقَّق من سعادة روحية غامرة في رحاب المدينة المنورة الطاهرة بدأتِ الرحلةُ إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة وما كان أيسر الطريق إلى هناك وأعظمه متعة، والمرء قد ارتدى لباس الإحرام للعمرة.
وكانت بهجة رؤية منائر الحرم - وإن عانقتها وضايقتها ما حشر حوله من عمارات عالية - بهجة عظيمة. وازدادت عظمة تلك البهجة بعد الدخول إلى المسجد، ثم الانضمام إلى الطائفتين حول الكعبة المشرفة لتحلِّق النفس في أجواء روحانية غير محدودة المدى، ثم تكتمل سعادته باكتمال أدائه عمرته، مؤملاً أن يجعلها الله في موازين حسناته، وأن تكون سبباً من أسباب غفرانه له زلاَّته الكثيرة.
على أن مما أثلج الصدر كان العودة مرَّة أخرى - بعد أداء العمرة - إلى المدينة المنورة مما أتاح الفرصة لتكرار زيارة المسجد النبوي والسلام على النبيِّ المصطفى - عليه أفضل الصلاة والسلام - وعلى صاحبيه رضوان الله عليهما.
|