رأى بعض الحكماء رجلاً يبتذل كتاباً، فقال له: بيّنت عن نقصك، وبرهنت عن جهلك، فما أهان أحد كتاب علم إلا لجهله بما فيه، وسوء معرفته بما يحويه.
وقال الزبير بن بكار: قالت بنت أخي لزوجتي: خالي رجل لأهله، لا يتخذ ضرة، ولا يشتري جارية، فقالت الزوجة: والله لهذه الكتب أشد عليَّ من ثلاث ضرائر!
هكذا عبَّر السابقون عن محبتهم للكتب، وشغفهم بها، وقد عُرف العرب بعد الإسلام بتمام التعلق بالكتابة والقلم، فقد قيل: إن الحكمة نزلت فكانت في عقول اليونان، وأيدي أهل الصين، وعلى ألسنة العرب، والأمة الإسلامية هي أمة القلم والقراءة والكتابة.
وقد تنوعت كتابات المتقدمين والمتأخرين في هذا المجال، وتعددت أقوالهم في هذه البابة، حتى أفضى ذلك إلى مؤلفات، ولكني ذاكر ها هنا نوعاً من شغف الأمة بالكتب، لم أجد من نص عليه، وهو النسبة إلى كتاب ما، وذلك أن يُنسب احد إلى كتاب ألّفه لحسنه، وكمال تبويبه، أو حفظه، أو شرحه، أو اشتغل عليه، أو غير هذا مما له تعلق بهذه النسبة العجيبة، وإن دل هذا على شيء، فإنه يدل على قدر الكتاب وأهميته عند سلفنا من العلماء المحققين حتى صار بعضهم يُنسب إلى كتاب ما عوضاً أن يُنسب إلى أبيه أو قبيلته أو بلده أو حرفته.
* ألّف الإمام المحدث الحافظ عبدالله بن محمد بن عبدالله بن جعفر الجعفي، البخاري المسندي (ت 229) مسنده الذي جعله للأحاديث المسندة فقط، دون المراسيل والمقاطيع كما ذكر ذلك ابن الجوزي (المنتظم) (11-147) فنُسب إلى مسنده لأنه أول من جمع (مسند الصحابة) بما وراء النهر، (الأعلام) (4- 117). وهذا الإمام هو تلميذ سفيان بن عيينة، وعبدالرزاق صاحب المصنف، وشيخ البخاري إذ روى عنه في صحيحه، وشيخ أبي زرعة وأبي حاتم من أئمة الحديث، والجرح والتعديل.
* وألف أبو تمام (ت 231) الشاعر المشهور، أحد شعراء العربية الكبار، كتابه (ديوان الحماسة) الذي ضمّنه أحسن اختياراته من أشعار المتقدمين والذي قيل عنه فيما بعد: أبو تمام في اختياراته أشعر منه في شعره، وقد عكف الأئمة على كتابه هذا حفظاً ودراسة وشرحاً وتعليقاً واستشهاداً بنفائس، ما فيه من ذخائر كلام العرب المنظوم، فمن أولئك التبريزي والمرزوقي في شرحيهما عليه. الطريف في الأمر أن كثيراً من العلماء بلغ اعتناؤهم بهذا الكتاب وتقديره أن نسبوا إليه كل شاعر له قصيدة فيه أو مقطعة، أو شيء من شعره، فيقولون لمن له فيه شعر حين الاستشهاد بشعره: (قال الحماسي) أو (قالت الحماسية)، وهم يعنون أحد الشعراء ممن له فيه شعر، شريطة أن يكون الشاهد في (ديوان الحماسة) وهذا مثل صنيع الخطيب القزويني في التلخيص، وذلك في المواضع التالية: التلخيص ببغية الإيضاح: (1-22، 58، 82، 125، 126) (2-140، 145، 156) (4-30، 45، 88، 130) وكذلك صنيع ابن هشام النحوي في بعض كتبه مثل (مغني اللبيب)، وانظر: (1-113) (2-78، 132، 171) (3-370) (5-63، 389) (6- 211، 450، 563). وعلى هذا فيكون شعراء الحماسة منسوبين إلى (ديوان الحماسة) وهم جم غفير، يتجاوزون المائة.
* وجادت مقدرة الإبداع لدى العلامة الأديب اللغوي النسابة محمد بن حبيب بن أمية الهاشمي ولاء، أبو جعفر المعروف بابن حبيب (ت 245) فألف كتاب (المحبر) والذي حبّره تحبيراً، وضمّنه نتفاً من الطرائف والأخبار، ولطائف الأنساب، وهو صاحب مؤلفات كثيرة كما هو مذكور في ترجمته في (معجم الأدباء) وغيره، إلا أن كتابه هذا يعد أبرزها كلها، إلى حد بلغ بالعلماء أن نسبوا المؤلف إليه، بدل أن ينسبوا الكتاب إلى المؤلف كما هو الأصل في نسبة المؤلفات، فقالوا له (المحبري) نسبة إلى كتابه، وهذا صنيع السمعاني في (الأنساب) في كلمة (محبر)، وغيره كالأعلام للزركلي.
* وألّف شيخ الشافعية في العراق في عصره الإمام محمد بن أحمد بن الحسين بن عمر أبوبكر الشاشي الفارقي المستظهري (429 - 507) كتابه (حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء) للخليفة المستظهر العباسي أحمد بن عبدالله (ت 512)، فعُرف الكتاب (بالمستظهري) لذلك، ثم نُسِبَ الشاشي إلى كتابه هذا بعد تسميته هذه، (وفيات الأعيان) (4-219)، و(الأعلام) (5-316) وهذا أمر طريف: نسب الكتاب إلى الخليفة، ثم نسب مؤلفه إليه.
* واشتهر كتاب (الفصيح) لثعلب أحمد بن يحيى (ت 291) إمام الكوفيين في اللغة والنحو، شهرة كبيرة، وقد نُسب إلى هذا الكتاب أعرف أهل زمانه بالنحو علي بن محمد بن علي النحوي (ت 516) تلميذ عبدالقاهر الجرجاني (ت 471) فأصبح يُعرف بالفصيحي نسبة كما يظهر إلى هذا الكتاب، قال ابن خلكان: (ولم أعرف نسبته بالفصيحي إلى كتاب الفصيح لثعلب أم إلى شيء آخر). (الوفيات) (3-337).
* واشتغل طلبة العلم والعلماء زماناً بكتاب (المقترح في المصطلح في الجدل) للفقيه المتكلم الأصولي محمد بن محمد البروي الشافعي (ت567)، وقد نُسب إلى هذا الكتاب او سُمِّي به على الأحرى الفقيه الشافعي مظفر بن عبدالله بن علي بن الحسين المصري (560 - 612) فسُمِّي (المقترح) قال ابن قاضي شهبة: (عُرف تقي الدين بالمقترح لأنه كان يحفظه) ولا يقال له إلا التقي المقترح كما قال حاجي خليفة، (طبقات الشافعية الكبرى) (8- 372) و(الأعلام) (7-256).
* وللشاعر الفقيه الشافعي محمد بن أحمد بن أبي بكر بن رشيد الوتري، البغدادي (ت 662) مدائح نبوية سمّاها (الوتريات في مدح أفضل الكائنات) أو (القصائد الوترية في مدح خير البرية) وهي 29 قصيدة على حروف المعجم، ويظهر أن الشاعر نُسب إليها، لأنه جعلها وتراً، وترجمته في (الأعلام) (7-29).
* وألّف الإمام الغزالي محمد بن محمد (450 - 505) كتابه الوجيز في فروع الفقه الشافعي، فأكب عليه طلبة العلم زماناً حفظاً ودراسة واعتناءً وشرحاً إلى أن نسب إليه قوم منهم:
1- الإمام أحمد بن محمد بن أحمد بن سليمان الوجيزي الواسطي الأصل الأشمومي المولد والدار (ت 729) عُرف بالوجيزي لحفظه إياه واعتنائه به، كما قال الصفدي في (أعيان العصر) (1-379).
2 - الفقيه أحمد بن محمد بن أحمد بن عَرَنْدة المحلي المصري الشافعي الوجيزي (742 - 818). عُرف بالوجيزي لأنه حفظ كتاب (الوجيز) كما ذكره المقريزي في (درر العقود الفريدة) (1-172).
3 - الإمام يوسف بن عبدالله بن إبراهيم الدمشقي الشافعي الوجيزي نُسب إلى كتاب (الوجيز) لحفظه إياه. (طبقات الشافعية الكبرى) (8-362).
وقد اختصر العلامة الفقيه عبدالرحيم بن محمد المعروف بابن بونس الموصلي (ت 671) هذا الكتاب في مختصر سمّاه (التعجيز). والجدير بالذكر أن هذا المختصر قد نُسب إليه أيضاً الفقيه أحمد بن محمد بن إسماعيل الإربلي التعجيزي (ت 728) فعُرف بالتعجيزي لأنه كان يحفظ هذا الكتاب. كما في (أعيان العصر) (1-381).
* وألّف الإمام يحيى بن شرف النووي (631 - 676) كتابه (منهاج الطالبين) في فقه الشافعية، فاشتغل عليه طلبة العلم زماناً، وقد نُسب إلى هذا الكتاب قوم لدوام اشتغالهم، عليه، وتمام عنايتهم به، فمنهم:
1 - محمد بن عبدالله ابن بهادر الزركشي المنهاجي الشافعي (745 - 794)، قال المقريزي: (اشتغل بحفظ كتاب المنهاج في الفقه للنووي فقيل له: المنهاجي) (درر العقود الفريدة) (3-150 - 151). وهذا الإمام هو صاحب (البرهان في علوم القرآن) و(البحر المحيط) في أصول الفقه، والمؤلفات الكثيرة النافعة التي تربو على ستين مؤلفاً، مع أنه تُوفي عن 49 عاماً فقط.
2 - محمد بن أحمد بن علي بن محمد المنهاجي الشافعي (742 - 806) كما في (درر العقود الفريدة) (3-350).
3 - محمد بن أحمد بن علي السيوطي ثم القاهري الشافعي المنهاجي (813 - 880)، صاحب كتاب (جواهر العقود) مطبوع، ويظهر أن نسبته إلى كتاب (منهاج الطالبين). وله شرح عليه، وترجمته في (الأعلام) (5-334).
4 - محمد بن عبدالرحيم بن أحمد المنهاجي (771 - 886) جده أحمد يُعرف بالمنهاجي لحفظه كتاب المنهاج في الفقه كما ذكر المقريزي (درر العقود الفريدة) (3-347 - 348).
* ومن الجدير بالذكر أن الفقيه العلامة عبدالرحمن بن زين الدين بن سعد الدين القزويني الشافعي الحلّالي (773 - 836) عُرف بالحلّالي بتشديد اللام نسبة إلى الحل لأن أباه اقترح عليه أن يحل كتاب العضد الإيجي عبدالرحمن بن أحمد (ت 756) فحله، أي: شرح مشكله، على نحو ما ذكره (المقريزي في (درر العقود الفريدة) (2-256).
* وهذا العلامة أحد كبار العلماء في العقليات محمد بن سليمان بن سعد الرومي الحنفي الكافيجي (788 - 879) شيخ السيوطي، نُسب إلى الكافيجي وهي الكافية في النحو في نحو ثلاثة آلاف بيت لابن مالك إمام اللغة والنحو (600 - 672) لكثرة اشتغاله بها، ونلحظ أن الأتراك يزيدون الجيم في النسبة، على نحو ما وقع في هذه النسبة. وله ترجمة في (بغية الوعاة) (1-117)، و(الأعلام) (6-150).
* وأما العلامة المتفنن المكثر من التأليف عبدالرحمن بن أبي بكر جلال الدين السيوطي (849 - 911) فقد وهب نفسه للكتاب قراءة، واعتناء واقتناء وتأليفاً، وقيماً على مكتبة، بل وكان يلقّب (بابن الكتب)، لأن أباه طلب من أم السيوطي أن تأتيه بكتاب، ففاجأها المخاض، فولدته وهي بين الكتب. (الأعلام) (3-301). فالسيوطي وحده امتاز بكونه ابناً للكتب، وعن جدارة أيضاً، لتكون قدراً له، ويكون قدراً لها.
* ومن الطريف أن المفسر الأصولي الفقيه عبدالحق بن شاه محمد الإله آبادي الهندي ثم المكي (ت 1333) عُرف بشيخ (الدلائل) نسبة إلى (دلائل الخيرات) كتاب معروف مشهور، وذلك لأن الحُجاج الهنود كانوا يأخذون منه إجازة (دلائل الخيرات) عن طريق الرواية، ذكر ذلك صاحب (نزهة الخواطر) (8-1262).
* وأخيراً فإن عناية المتقدمين بالكتب بلغت إلى أن سُمِّي الإمام علاء الدين علي بن إبراهيم العطار (654 - 724) تلميذ الإمام النووي (مختصر النووي) لشدة ملازمته لشيخه، حتى أصبح الشيخ كأنه كتاب، وكأن تلميذه مختصر لذلك الكتاب!. وهكذا نماذج كثيرة لاهتمام متقدمينا من العلماء - رحمهم الله جميعاً - بالكتب، ومحبتهم لها، وهذا هو المثال الذي ينبغي أن نمشي عليه وأن نتتبع خطاه.
أبوحزم عبدالرحمن بن محمد بن أسعد الحكمي الفيفي- الرياض |