عقد خلال الفترة من 24 - 26-4-1425هـ، اللقاء الوطني للحوار الفكري الثالث في مدينة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وكان هذا اللقاء امتداداً للقاءين سابقين؛ إذ كان الأول في العاصمة الرياض بينما الثاني عقد في مكة المكرمة. وإزاء الحوار فكرة وفلسفة وآليات ونتائج تتوارد على الذهن أسئلة كثيرة متنوعة أجزم أن إجاباتها قد تسهم في إثراء وقوة اللقاء؛ مما يساعد على تحقيق أهدافه وغاياته.
لقد استحدث مركز لقاء أطلق عليه مركز الحوار الوطني، كما شُكلت رئاسة له تقوم على ترتيب وتنظيم اللقاءات وكل الإجراءات والأعمال ذات العلاقة؛ مما يعني أن الحوار أصبح مؤسسياً وليس أمراً طارئاً يزول بعد فترة وجيزة؛ أي أن الحوار المنظم ذا الصبغة الهيكلية سيستمر ويكون جزءاً من ملامح المجتمع وخصائصه المعتبرة والتي ستكون جزءاً من أدبيات الوطن يرجع إليها الباحثون والسابرون للمجتمعات في نموها وتطورها والتحولات التي تمر بها. وأحسب أن إجابات بعض التساؤلات التي قد تتوارد حول اللقاء الوطني للحوار تتوافر عند رئاسة اللقاء أو لدى بعض العارفين ببواطن الأمور، لكنها وبالتأكيد تخفى عليّ شخصياً. توقفت عند فكرة اللقاء ولماذا وجدت في هذا الظرف من تاريخ وطننا فألفيت أن الموضوع لا يمكن فصله حتى وإن كان أمراً محليا عن الظروف الإقليمية والعالمية، كما لا يمكن تجاهل دور التغيرات التي يمر بها مجتمعنا في الأمور الثقافية والفكرية والاقتصادية والسياسية كافة. وطالما أن العوامل العالمية والإقليمية والمحلية كلها أسهمت في بلورة الفكرة وتنفيذها على أرض الواقع فإنه لا يمكن تصور نضوب الفكرة واضمحلالها؛ لأن البذرة طالما أنها وجدت فإن الشجرة تنمو وتثمر إذا استمرت العناية بها وإرواؤها بالأفكار والآراء السديدة التي تجعل منها ذات ثمار يانعة يعود خيرها على المجتمع كافة. إن الحوار في مفهومه الشامل جزء من ثقافة المجتمع المستمدة من الدين الإسلامي الحنيف؛ فبالحوار نستكشف الحقيقة ونعرف ما خفي من الأمور، كما يحدث التقارب بين الأطراف كافة مهما تباعدت أماكن سكنها أو اختلفت آراؤها إزاء بعض القضايا. وبالحوار يلتئم الشمل وتزول الجفوة طالما انطلق الجميع من نية سليمة وسلكوا مسلك الموضوعية وتحري الدقة فيما يطرحون.
إن وجود فلسفة واضحة للحوار تشكل إطارا يهتدى به لتحقيق وتنفيذ كل الأمور ذات العلاقة بالحوار الوطني أمر لا بد منه، فهل توجد فلسفة واضحة؟ وما هي هذه الفلسفة إن وجدت؟ أحسب أن اللقاء الوطني للحوار يرتكز على مفهوم الشورى فهي الأساس الذي نبعت منه الفكرة؛ وذلك من أجل إيجاد مصدر للرأي والمشورة يعين الجهازين السياسي والإداري على تسيير أمور البلاد والعباد بالصورة التي تحقق ما يتطلع إليه الجميع من حياة كريمة وعزيزة في الوقت ذاته، حياة تحفظ للأفراد وللمجتمع النماء والاستقرار والقوة والمنعة. الفلسفة الواضحة تحدد الأهداف والغايات وتكشف الأسباب وتبين الآليات المتبعة في الحوار. إن الربط بين العنوان الذي أطلق على اللقاء وهو الحوار الوطني ومفهوم الشورى الذي افترضت أنه الأساس الفلسفي لمفهوم الحوار قد يدعم هذا الافتراض أو قد ينفيه. إن التأمل في كلمتي الحوار الوطني قد يبين ذلك. لقد كررت قراءة كلمتي حوار وطني، وتساءلت: حوار بين مَن ومَن؟ أتساءل لأن الحوار في العادة يكون بين طرفين أو أكثر، وقد لا يوجد بالضرورة اختلاف كما لا يوجد اتفاق. الحوار يتم بغرض معرفة أحد الطرفين حقيقة قد تخفى عليه وتوجد لدى الآخر، كما يكون الحوار لكشف اللبس في موضوع أو لإقناع طرف بفكرة ليس براضٍ أو مقتنع بها، كما يكون الحوار بغرض إيجاد مناخ اجتماعي تمرر من خلاله أفكار أو مشروع ما، كما يستهدف الحوار جس نبض الشارع في شأن قد يكون مهماً على الصعيد الاجتماعي.
الحوار الوطني يستدعي التساؤل: أهو حوار بين الأطياف المثقفة، أم حوار بين ذوي مصالح متعددة، أم حوار بين ذوي مهن متنوعة؟! وهل هو حوار بين أطراف متكافئة؟ وإذا استقر الرأي على أن الحوار بين أطراف وبغض النظر عن انتماء الأطراف وهوياتهم أو مصالحهم، يتأكد السؤال الأكثر أهمية: ماذا يتوافر لدى المتحاورين؟! إن الفكر والرؤى والحماس لمعالجة قضايا ذات بعد اجتماعي وشمولي وليس فئوياً يفترض أن تكون أهم الخصائص المتوافرة في المتحاورين، ولكن هل يكفي هذا؟! هل يملك المتحاورون القرار بشأن ما يتحاورون حوله؟! وهل يمكنهم التأثير في صناعة القرار؟! وفرق بين من يملك القرار ومن يسهم في صناعته. إن صناعة القرار الناجح في الغالب تؤسس على معلومات دقيقة وموضوعية، ومثل هذه المعلومات تتوافر عن طريق مراكز البحوث والدراسات، وبمدد من ذوي الخبرة والتجربة، وهذا ما يفترض أن يتحقق في الحوار الوطني؛ فالمشاركون بخبراتهم وتجاربهم، والباحثون بما توصلوا إليه من معلومات ميدانية تشكل الأساس الذي تبنى عليه التوصيات. إن الدقة في اختيار المتحاورين بما يتوافر لهم من خبرة وحنكة ورؤية سديدة تمثل محكاً جوهرياً من محكات نجاح الحوار، كما أن موضوعية الباحث أو الباحثين وسلامة منهج البحث تمثلان المحور الأساس؛ لأن المتحاورين ينطلقون مما يقدمه الباحثون من معلومات يفترض أن ترقى لمستوى الحقائق وليس التخمينات. إن الحوار كما يؤمل منه يفترض ألا يكون حواراً سفسطائياً كحوار الفلاسفة الذين يقضون السنين الطويلة في نقاش حول أمور مجردة وغير محسوسة. إن الحوار الذي نريده هو الحوار الذي يقود إلى قرارات توجد حراكاً اجتماعياً من شأنه زيادة المشاركة في مناحي الحياة كافة، أما إذا انتهى الحوار إلى التوصيات واكتفينا بالتغطية الإعلامية فإن النتيجة المتوقعة فقدان الحوار بريقه، وإصابة المشاركين في الحوار، والمجتمع الذي يؤمل على الحوار إحداث تغييرات بناءة، بالإحباط.
الآلية الواضحة والدقيقة التي يتم بها اختيار المتحاورين والمشاركين من شأنها الإسهام في حسن الاختيار، وأحسب أن مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني لديه قاعدة معلومات شاملة تبين السير الذاتية لكثير من أبناء الوطن؛ مما يمثل عوناً على حسن الاختيار بالإضافة إلى تزكيات وتوصيات جهات عملهم. إن وضع آلية لاختيار المتحاورين والباحثين وفق الأسس الموضوعية التي تأخذ في اعتبارها خلفية الأفراد الفكرية، والمهنية، والثقافية بالإضافة إلى خصائص الشخصية القادرة على النقاش وطرح الرأي والدفاع عنه بالصورة الموضوعية لا العاطفية المتشنجة، يمثل منطلقاً مهماً في مسألة الحوار.يضاف لما سبق من جوانب الاهتمام بشأن الحوار الوطني اختيار المواضيع المطروحة للنقاش والحوار حولها، وإزاء هذا الشأن يتساءل المرء عن كيفية اختيار الموضوع لكل لقاء، وهل توجد قائمة مواضيع يتم الاختيار من بينها؟ ومن وضع هذه القائمة - إن وجدت، أم أن الأمر متروك لرئاسة الحوار لاختيار وتحديد الموضوع؟ وهل ما يطرح على الساحة الإعلامية من قضايا اجتماعية يشكل مصدراً من مصادر اختيار المواضيع؟ هذه الأسئلة وغيرها ترد للذهن في هذا الشأن، لكن الذي لمسته في اللقاء الثالث حيث كنت أحد المشاركين أن رئاسة الحوار طلبت من الحضور اقتراح مواضيع للقاءات القادمة، لكن ماذا تمّ بما اقترح، وما آلية الاختيار بين المواضيع المقترحة؟ هذه أمور غير واضحة بالنسبة لي على أقل تقدير.
لا يختلف اثنان على أهمية الحوار على المستويات كافة وفي كل المجالات، ولا أحد يشك في أهمية التوصيات التي يخرج بها اللقاء، لكن المهم أن نعرف ماذا نفعل بهذه التوصيات، وكيف نوظف عصارة الفكر والخبرة والبحوث في خدمة المجتمع بدلاً من أن نترك الاجتماع ينفض تحفه التغطية الإعلامية، ولكن دون نتائج على أرض الواقع.
(*)عضو اللقاء الثالث للحوار الوطني، عميد كلية التربية - جامعة الملك سعود |