تعرضت الأمة الإسلامية للكثير من المآسي والنكبات في تاريخها المديد وجزء من هذه النكبات تم تجاوزه والتقليل من آثاره لكن جزءاً آخر استمر مع الأمة واستمرت الأمة تدفع أثماناً باهظة عبر الأجيال المتعاقبة، وعند التأمل في هذه النكبات التي استمر اثرها مع الأمة عبر هذه العصور نجد أنها ذات طابع فكري وعقائدي استهدف البناء النفسي والأيدلوجي لأفراد الأمة مما جعلهم يحملون هذه الأفكار ويتوارثونها أباً عن جد. إن التقسيم والتشرذم الذي يطل على الأمة بين فترة وأخرى ويشحذ من الخارج أحياناً ومن الداخل أحياناً أخرى لم يأت من فراغ لكن جذوره الأساسية تعود لحادثة الفتنة التي وقعت في صدر الأمة واستمر اثرها يلاحق الأجيال. تساءلت وأنا أتأمل في أحداث التاريخ والأمم عن الآثار التي تتركها في نفوس الأفراد وعلى صعيد الأمة في كافة مناحي الحياة الثقافية والفكرية والإنتاج المادي والتقني. عدت بذاكرتي إلى التاريخ الحديث وما حل بالأمة بدءاً باغتصاب فلسطين واحتلالها من قبل الصهاينة المدعومين من الغرب ومروراً بهزيمة عام 1967 التي حاول قادة تلك المرحلة تبرير الهزيمة لعدة مبررات ظناً منهم أن هذه المبررات تقلل من آثارها النفسية والمعنوية والاجتماعية. فهل تحقق هذا الهدف الذي سعى إليه قادة مرحلة الهزيمة أم أن الحدث المزلزل أثر في النفوس وغير في الأمة؟! بالرجوع إلى أدبيات تلك الفترة يجد المرء الشواهد على اهتزاز الكثير من القناعات التي كانت سائدة في تلك المرحلة والتي رددها اعلام الأنظمة رافعا لها شعارات يلهي بها الشعوب وما القومية والناصرية والبعث إلا أمثلة على تلك الشاعرات التي لهثت الأمة وراءها وصفق المصفقون لها كثيراً لكنها في النهاية أوردت الجميع أمة وأنظمة الى هزيمة مؤلمة للأمة وليس بالضرورة للأنظمة، لقد مثلت تلك الهزيمة هزة عنيفة استدعت مراجعة الكثيرين لما كان يعتقد انه من المسلمات غير القابلة للمناقشة في السابق وكانت النتيجة تراجع الكثير من أبناء الامة عن تلك الاطروحات وتشكيكهم في جدواها أو قدرتها على حل مشاكل الأمة المتعددة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً، لأن هذه الأطروحات تفتقد خاصية النظام المتكامل ولذا لجأ الكثير من ابناء الأمة للبحث عن أطروحات جديدة يمكنها ان تحقق ما لم تقدر على تحقيقه الاطروحات السابقة، إن خيبة الامل والاحباط الذي أوجدته هزيمة 1967 في ضمير الأمة كان قويا ومؤثرا مما استدعى المراجعات الفكرية الشاملة على مستوى الأفراد لكن الانظمة لم تفعل هذا الصنيع واستمرت في أطروحاتها، ونتيجة لهذا الوضع النفسي والاجتماعي بدأ البناء الفكري الجديدة يأخذ طريقه في حياة الأمة وفي نفوس الناس على أمل أن تتجدد دماء الامة ويكون الحراك والنماء في كافة المجالات بدلا من التبعية للشرق أو الغرب. ومع ما واجهت به الانظمة هذا النماء الفكري من قمع وتشويه وزج في السجون إلا أن أسس ولبنات التشكيل الفكري بدأت تترسخ في المجتمعات العربية والاسلامية وبدأت هذه التشكيلات الفكرية تحدث أثرها لدى المثقفين وعامة الناس، إذ بدأ الكثير يتساءل حول الواقع المتردي الذي تعيشه الامة وأسبابه وكيفية تغييره نحو الأفضل، كما بدأ الحديث يتناول الاسباب والأساليب المحققة للمشاركة في التنمية والبناء إلا أن المؤسف ان الأنظمة بدت متأخرة عن مسايرة الاطروحات والتطلعات الشعبية إما بسبب عدم قناعتها بصحة هذه الرؤى والأفكار وإما لأن مصالحها تتعارض مع هذه الأطروحات.
لقد مرت الامة خلال العقود الماضية بهزات عنيفة وتغيرات قوية، فالثورة الايرانية شكلت زلزالا قويا ما تزال آثاره تحدث خلخلة في المنطقة، إلا أن حجم الحدث لم يوازه ما يجب من اهتمام لدراسة الاسباب، والغوص في أعماق هذه الاحداث بدلا من التعامل معها بأسلوب المهدئات، والمسكنات، وعامل الوقت الذي يظن انه يكفل حل المشكلات مهما تعقدت وتنوعت، الأمر في نظري يستوجب الدراسة والتحليل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي والفكري، وإن مؤسسات التعليم العالي ودور الثقافة ومراكز البحث هي المرشح الأول للتصدي لهذه الاحداث لدراستها والتعرف على أسبابها وآثارها المحتملة والمشاهدة، تتابع الأحداث على المنطقة لم يوقظ الانظمة لتعمل وفق أسلوب المؤسسات والتعامل معها بالأساليب العلمية بدلا من الاساليب الأمنية مما ترتب عليه وجود فجوة في التفكير وآليات احداث التغيير بين المثقفين الحريصين على الأمة ومستقبلها ودورها الحضاري الذي من المفترض ان تلعبه في هذا العالم وبين الأنظمة التي تفضل حالة السكون والركود. هل استفادت الأمة من الأحداث المحدقة أم أنها استمرت في تجاهلها لهذه الأحداث؟ لو أخذنا حرب الخليج الثانية وما رافقها من انقسام وتشرذم في الامة على صعيد القيادات السياسية وصعيد المثقفين ورواد الفكر كمثال على عدم الاستفادة من الأحدث ماذا نجد؟! المتبصر بما حدث يجد أن ذلك الحدث كان فرصة للأمة لمعرفة واقعها الحقيقي دون عمليات تجميل ودون مبالغات إعلامية تصف الواقع بخلاف ما هو عليه وتزينه وتجعله واقعا مثاليا بينما هو خلاف ذلك، بل إنه واقع متردٍ ومزرٍ، كان الأجدر بنا جميعا حكومات وشعوبا أن نعيد النظر في كافة أمورنا الثقافية والفكرية والسياسية والعسكرية. لقد اكتشفنا هشاشة وضعنا النفسي فماذا عملنا لصياغة أنفسنا بالشكل الذي يجعلها تتحمل الحروب وتواجه الصعوبات وتتجشمها دونما ضجر أو ملل؟! واكتشفنا عدم كفاية استعداداتنا العسكرية فماذا أخذنا من احتياطات سواء لتدريب شبابنا أو لايجاد الصناعات التي تحقق لنا شيئا من الاكتفاء؟! ثم إننا لمسنا الاختلاف في الرأي من الازمة فماذا عملنا من دراسات وبحوث لمعرفة أسباب هذه الاختلافات؟! اقتصادنا واحتياجاتنا اليومية من تموين وخلافه هي من الاهمية بمكان لكن ماذا اتخذنا من اجراءات بشأنها لنضمن عدم تأثرها في أوقات الأزمات؟! كل هذه الأحداث مرت بنا وعشناها لكننا تعاملنا معها وفق منطق سحابة صيف تزول، وهكذا دواليك ننتهي من أزمة لندخل أزمة أخرى لنتعامل معها بالمنطق والاسلوب نفسيهما وكأننا لم نخلق إلا لنتعرض للضربات ونصبر ولا نعمل على تفادي هذه الضربات بمعرفة الاسباب الحقيقية وراءها. الحرب الأمريكية البريطانية على العراق حدث جسيم يستدعي الوقوف عنده طويلا، لكن موقف المتفرج الذي اتخذته الأنظمة العربية والإسلامية يبعث على التساؤل، هل ما تفعله أمريكا وحليفتها بشأن العراق صحيح لنقف نشاهد الاحداث من حولنا دون أن يكون لنا دور فيها؟! وهل نحن راضون عما جرى ويجري على أرض الرافدين؟ أم الأمر جلل ولا نستطيع ان نفعل ازاءه شيئا؟! لا يوجد شك لدي أن لا أحد يرضى بما حدث ويحدث، لكن ماذا فعلنا وماذا يمكن ان نفعل؟! الفعل يفترض أن يكون بمستوى الحدث، والفعل لا يحدث إلا بتهيئة الأسباب، والأسباب كما يبدو وكما هو على أرض الواقع لم تتخذ. إن توقعنا واستشرافنا للمستقبل وما قد يحث فيه هو أول خطوة نخطوها لنسير على الطريق الصحيح، ثم إن كشف الواقع - وهو مكشوف للكثيرين - والاعتراف بهذا الواقع في إيجابياته وسلبياته يمثل خطوة مهمة إلا أن الاعتراف بالواقع يحتاج إلى تهيئة نفسية وذهنية قد لا تتوافر عند البعض ويحتاجون إلى تدريب ذواتهم ليخرجوا من العالم المثالي الى العالم الحقيقي، ويعرفوا ما يوجد في ارض الواقع وفي المجتمعات من مشاكل وأزمات تجاهلتها أجهزة الدعاية وتغاضىعنها صناع القرار مما أوجد بيئة غير مستقرة ووضعا غير طبيعي مما شكل رحما لتغيرات مستقبلية قد تكون جسيمة ومؤلمة إذا لم نستشرف تلك المرحلة ونتهيأ لها بوعي مع الأخذ بكافة الاسباب الممكنة بما في ذلك توظيف كافة الامكانات المادية والبشرية ضمن مناخ يعطي الجميع فرصة التفكير الحر والمشاركة في البناء.
* عميد كلية التربية - جامعة الملك سعود
|