Thursday 2nd September,200411662العددالخميس 17 ,رجب 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "سماء النجوم"

أجراس أجراس
قصة :فهد الخليوي

خمسون حولا دقت أجراسها قبل لحظة، بين صخب جرس وآخر، تقبع ارتعاشة مرهفة أو مسرحية مملة يشدها قضيبان: هزلي وتراجيدي.
كان في تلك الليلة ضجرا تمنى لو تمطر السماء، وتبلل الأرض والبيوت وتنقر بزخاتها المتسارعة هياكل السيارات التالفة وبقايا الأخشاب المهملة وكميات العلب الفارغة المتناثرة على جنبات الشوارع.
كان يحلم بأن تمطر السماء وتستثير رائحة التراب الخامدة في أنفه.
قاد سيارته باتجاه جنوب المدينة كانت ثلة من النجوم مصطفة في السماء حيث شكلت عقداً ضوئياً تلاشى سريعاً وسط غيوم بيضاء أخذت بالتمزق كنتف القطن، وسمحت لشفافية ضوء بعيد بالتسلل بين فجواتها الباردة.
الأحياء القديمة جنوب المدينة، تلتصق في بعضها كالتلال الرملية الصغيرة، وتشيع عبقها الطيب الممزوج بالسكينة والاستكانة.
للأمكنة في هذه الأحياء بغوار الأزمنة حضور متألق في ذاكرته.. عبر شارع ضيق، أفضى به إلى حيه القديم، هاهو مسجد الحي بجوار بوابته الخشبية، نعشان متقابلان لم يتغير مكانهما، ثم مقهى (عبده اليماني) الذي رحل إلى اليمن قبل سنوات (وقبّل) المقهى لأحد الهنود.
توغل داخل الحي، إلى أن وصل إلى منزله الصغير، الذي تركه قبل ثلاثين عاماً بسبب عجزه عن دفع أجره الشهري، مالك المنزل أمهله يومين للبحث عن مكان آخر.
آنذاك جلب عشرات الكراتين، من مرمى مستودعات الأغذية لشحن كتبه، أما باقي الأمتعة فأمكن شحنها بكيس صغير، ابريق شاي من النحاس الأصغر، سخان كهربائي عتيق، كوب من الزجاج الباهت، فراش من الإسفنج الهابط، أقلام، نايات، شريف غنائي لفيزوز وآخر لفوزي محسون.
أخذ يشحن الكتب ذات الحجم الأكبر (... والعدم) يحتاج بمفرده لكرتون.. (الحرية سابقة.. العدم خارج...) سارتر أديب وفنان أكثر منه فيلسوفاً ومنظراً.
(تدهور حضارة الغرب لشينغلر) ثلاثة أجزاء، تحتاج لأكثر من كرتونة
(المدينة ليست نواة حضارة، سكان المدن يكررون الحياة والموت بطريقة رتيبة وليس لهم علاقة بصنع الحضارة البتة) كيف؟
ستنتهي مهلة اليومين وأنت تقرأ قبل أن يجبك هذا الموسوعي عن سؤالك, أما (هكذا تكلم زاردشت) فأقل حجماً ويمكن شحنه مع بقية الكتب (على كل سائر أن يكون جسراً للمتقدمين وقدوة للمتأخرين) نيتشه.. فيلسوف عظيم لا يتكرر أقلع عن همهاته وانهمك في ترتيب الكتب ذات الحجم الأكبر، ثم الأوسط، فالأصغر، حمل كراتينه المدهشة وكيس متاعه الصغير ورحل عن هذا الحي قبل ثلاثين عاماً.
ايقاعات حزينة وشجية تناغمت في فضاء روحه, شعر بأن ذاكرته تشتعل وتصهر المكان والزمان، وكأنها تحيل حقبة توارت إلى دقائق معدودات..
قاد سيارته متجهاً إلى الشارع العام، ثم سلك الطريق المؤدية إلى البحر..
هناك وقف على الشاطئ منصتاً لدمدمة البحر.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved