استرعى انتباهي - كغيري من القراء - ذلك الحوار الذي دار بين عدة أقلام عبر صفحات الجريدة الغراء (الجزيرة) وكان محوره المعاقين او كما تمت مؤخراً تسميتهم ذوي الاحتياجات الخاصة، وأخذ الحوار ينتقل عبر الأقلام ليصل الى فرع هو الأقل أهمية بين كل ما يخص المعاقين وهو التسمية (معاقون أم فئات خاصة أم ذوو احتياجات خاصة)، وتناسى الكثيرون ان محور النقاش ينبغي ان ينصب على جوهر الموضوع وهو الإنسان.
وأثار استيائي ما كتبه احد القراء معبراً عن تقززه من زملائه المعاقين غير القادرين - كما يقول - على الاهتمام بنظافتهم الشخصية، وهنا اود ان اعرض حقيقة مهمة ينبغي لكل منا ان يضعها دوماً نصب عينيه، وهي ان اي شخص معرض لان يصبح معاقاً في أي وقت وفي أي مكان، فهل حدث بعد تناول وجبة دسمة ان شعرت بثقل يمنعك من النهوض واخذت تصرخ لأحدهم - ربما ابنك- تطلب كوباً من الماء، فماذا لو لم يسارع بتلبية ندائك؟ فبم ستحس؟ بل تخيل لو كنت طريح الفراش رغماً عنك وكان من حولك يستثقل القيام بمتطلباتك الشخصية فبماذا كنت ستشعر؟ تخيل لو اغمضت عينيك ليوم كامل تقوم خلاله بجميع أعمالك اليومية، ما هو شعورك حينئذ؟ بل ماذا لو كان كف بصرك اجباريا ولم تجد من يمد لك يده بالمساعدة! بم كنت ستفكر حينها؟ ولتدرك اخي القارئ ان كلاً منا معرض لذلك وفي أي وقت شئنا أم أبينا! فهل شكرنا لنعمة البصر التي وهبنا إياها الله تعالى دون أي جهد منا، هل شكرنا لهذه النعمة هو بتجاهل من حرموا منها والتذمر من وجودهم ورسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم) قد قال فيهم: (من ابتلي بحبيبتيه فصبر فليس له جزاء إلا الجنة) هل شكرنا لنعمة العقل التي حبانا بها الله تعالى يتمثل في التأفف من اولئك الذين امتحنهم الله عز وجل بحرمانهم منها وهو سبحانه قد خصهم بعدم تدوين معاصيهم، حيث قال رسوله الكريم: (رفع القلم عن ثلاثة.. وذكر فيهم المجنون حتى يفيق) وهل نشكر الله على ان كفانا الحاجة الى الآخرين بنبذ من يحتاجنا والتذمر من عدم قدرته على القيام بمتطلباته الشخصية! كلا ان هذه ليست من أخلاق المؤمن، بل ان اولئك افضل من العاديين فهم فعلاً ليسوا عاديين.انك وصلت لما وصلت اليه دون ان يعيقك شيء ورغم ذلك تستكثر الجهود التي تبذلها في الدراسة والعمل وغيرها، فما بالك بمن واجه العقبة تلو العقبة، وتحدى مشاكل وصعوبات كثيرة، لكنها لم تتمكن من اعاقته والتغلب عليه، بل تغلب عليها ووصل الى ما وصلت اليه انت متجاوزاً المحن، حامداً الله تعالى وشاكراً فضله قاعداً ان لم يستطع الوقوف، وعلى جنبه ان لم يتمكن من الجلوس، ذاكراً الله عز وجل بجوارحه ان اعجزه لسانه عن النطق او بقلبه ان عجزت جوارحه عن الحركة. ترى ايهما اقوى ايماناً وأيهما احق الرعاية والاهتمام والاحترام أهو المعاق أم الإنسان العادي؟
وأود هنا ان اذكر بالقدرات غير العادية التي تميز بها هؤلاء الذين احبهم الله حيث قال رسوله: (إن الله إذا أحب عبداً ابتلاه)، فكثير منهم يتميز بقدرات لا تجد من يتبانها ويمنحها الفرصة للظهور، حيث يركز المجتمع بنظرة متخلفة - مع الأسف - على ما فقدوه وليس على ما تميزوا به.
ولكي يتحقق هذا ينبغي اعطاؤهم حقوقاً أكبر بكثير مما يعطى المواطن العادي، فأناشد المسؤولين منحهم تأمينا مجانيا لجميع متطلباتهم الحياتية التي تؤمن لهم تذليل العقبات التي تواجههم حتى لا يكون ذلك شغلهم الشاغل، وأيضاً أن تكون الأجهزة والأدوات التي تؤمن لهم على مستوى يتناسب مع وضعنا كدولة غنية ولله الحمد، فلا يمنحوا كراسي متحركة تحتاج الى اصلاح بعد استخدامها بيومين او أجهزة قديمة عفا عليها الزمن ولم تعد تستخدم إلا في بلادنا. وأيضاً توفير الرعاية المناسبة لذوي الاعاقات المزدوجة، فمن يصدق ان كثيرين منهم - حتى وقت قريب - لم يحصلوا على اي تأهيل لان كل مركز يتجه اليه يكون متخصصاً في نوع من أنواع الإعاقة التي لديه فيحوله الى مركز آخر يظنه الأجدر بتأهيله، وهكذا يظل مزدوج الاعاقة حبيس المنزل لسنوات مصيرية من حياته، وهو يتنقل بأوراقه بين مراكز التأهيل المختلفة، ونرى بوادر أمل تلوح في الأفق حيث تنبه المسؤولون مؤخراً لهذا الأمر فنتمنى ان يتم القضاء سريعاً على هذه المشكلة في ظل تخطيط سليم وتوفير مراكز تدريب ملحقة بالمراكز الرئيسية تقوم بهذه المهمة.
كذلك نحن كمعلمات لهذه الفئة المتميزة من بناتنا بحاجة الى دورات تدريبية مستمرة غير مشروطة، فلا نكلف ما لا نطيق لندفع ضريبة رغبتنا في تحسين الخدمات العلمية والإنسانية التي نقدمها لطالباتنا، خصوصاً وأنه يُحظر على المعلمات في كثير من التخصصات اكمال الدراسات العليا بحجة ندرة التخصص وعدم امكانية تفريغ المعلمة للدراسة رغم الاعداد المهولة من الخريجات القادرات على سد الاحتياج في هذه الحالة ولو مؤقتاً، فالحرمان من الاستزادة في العلم يتنافى مع ما أمرنا به ديننا الحنيف (وقل ربي زدني علما).
وبالنسبة الى عملية دمج المعاقين فتيان وفتيات مع العاديين في المدارس ولكي يتحقق ذلك بشكل فعال وصحيح، فلسنا محتاجين لتأهيلهم لقبول العاديين فهم يتعاملون معهم في البيت والمدرسة، وإنما الحاجة ملحة لتدريب الطلبة والطالبات والمعلمين والمعلمات في التعليم العام لتقبل هؤلاء المناضلين واحترام وجودهم والاعتراف بآدميتهم وحقهم في الحياة مثلهم تماماً، لا تعاطفاً وتنازلاً وتفضلاً، وإنما احتراما وتقديراً لكفاحهم النبيل وهم بالفعل يستحقون عليه الاحترام، وكذلك عرفاناً بفضل الله الذي حرم هؤلاء ولم يحرمهم رغم ان هؤلاء ربما احب الى الله منهم، ولا يستطيع إنسان ان يجزم أنه لن يصبح يوماً في موضعهم او يرى احد ابنائه يوماً بينهم، قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
فاطمة عبدالرحمن السويح
الرياض |