ربما قدوم العولمة للوطن العربي ومحاولتها فرض وجودها أصبح أمراً لا مفر منه، بل صار حقيقة لا جدوى من الصمت أمامها، إذ النوافذ مشرعة وأبواب الرقابة الموصدة في يوم من الأيام قد اقتلعتها رياح العولمة، بل إن مقص الرقيب الذي كان فعالاً لا يهدأ في فترة السبعينيات قد خبا ضوءه وانتفى أثره، ووجدنا أنفسنا في فضاء مفتوح لم نعتده أو نهيأ للعبق من أنفاسه، بل على العكس واجهناه دون سلاح يقينا ويدفع عنا كل من يحاول المساس بأفكارنا وتغيير الثوابت التي كنا قبلاً نعتقد بأننا في مأمن حصين من تغييرها.
مع قدوم العولمة كل شيء تغيير والغريب تحول إلى مألوف وما كنا نعده خارقاً أصبح متعوداً ومتقبلاً حتى المصطلحات اعترتها موجة العولمة فمصطلح الاستنساخ لم يعد (كتب كتاب من كتاب) أو (نقل الشيء من مكان إلى مكان وهو هو) بل تطور واتسع معناه إلى نقل الشيء أياً كان مصدره وثقافته وما يحمل من معطيات فكرية وموروثات اجتماعية إلى كل مكان دون إحداث تغيير كبير في محتواه.
جميل أن نتطلع إلى ثقافة الآخر وجميل أن نقف أمام إنجازاته وتطور حضاراته لكن الأجمل أن نستقي من إبداعاته واختراعاته وكيفية تطلعه للمستقبل أن نأخذ ما يفيدنا ويطور من مهاراتنا وقدراتنا الذاتية والفكرية لنلتقي معه في خط واحد طريقه النهائي موصل لقمة النجاح.
نحن أمام غزو إعلامي وراءه أيدٍ خفية لها أهداف ترمي تحقيقها في منطقة الشرق الأوسط، قد يكون أولها السياسة وتهميش الفكر العربي وإغفاله في بحر اللا وعي عن قضاياه المصيرية لكن بصورة غير مستغربة إذ أن القادم يحمل صورة التطوير والتغيير، كم هائل من البرامج المستنسخة التي تُقدم في القنوات الفضائية كوجبة تصيب المشاهد، بالغثيان برامج تلوث الفضاء الفكري لدى شبابنا وفتياتنا أكثر من تنقيته.
نجد أننا بالتفاتة قصيرة إلى وضعنا في العالم العربي نستعذب استنساخ البرامج أو الأفكار كليهما سواء أكثر من عملنا وتفننا في إيجادها وتكلف عناء البحث عنها، بل إننا نعمل جاهدين على أن نطبقها بحذافيرها إذا لم تكن استنساخاً أصيلاً عنها، حتى لو جاءت هذه الفكرة أو تلك مغايرة ومخالفة لتفكيرنا وغير ملائمة لبيئتنا وما تتميز مجتمعاتنا من خصوصية.
الواقع يفرض أن نكون مع العولمة لا ضدها لكن علينا إيجاد الوعي لدى المتلقي بحيث أبني لديه قاعدة متينة لا تهتز أسسها مع أي غريب قادم أو تطرب لأي ناعق، الوعي الناضج الذي يعرف ما يريد ويرفض ما هو خارج سرب القناعات.
فاستنساخ البرامج دليل واضح على الضعف وافتقار القدرة على الإبداع والإنتاج المحلي الأصيل الذي يناسب المجتمع ويواكب التطلعات ويحاكي الواقع ويقدم مواضيع وبرامج تبني لا تهدم.
هل بالفعل هذا هو واقعنا الذي لا مفر من مواجهته وبالتالي اضطررنا إلى الاستنساخ كغيرنا وبهذه الطفرة التي أدت إلى التخمة وانعدام الثقة فيما يقدم إذ أننا بالنظر إلى عدد الجامعات والأقسام التي تعني بالإعلام إلى جانب الكم الهائل من القنوات الإعلامية التي نملكها هنا أو في الخارج حقيقة غائمة تعلوها سحب من الضباب، هل عقمت هذه الأقسام عن تخريج دماء جديدة بأفكار عربية شابة تواجه المستقبل وتصارع التحديات التي تواجه الأوطان، أم عجزت عن إنتاج مبدعين يثرون فضاءنا الإعلامي بما يتناسب مع طبيعتنا وتفكيرنا؛ لنواجه سراباً متمثلاً في واقع التعليم الذي يعني بالحشو والتلقين أكثر من اعتماده على التفكير الإبداعي الذي يفتح آفاقاً ومجالات أرحب نحو الإنتاج المحلي المتطور، ثمة نقص وخلل لا بد من البحث عنه والتماس السبب الحقيقي وراء هذا الإخفاق المتمثل في عشق شبابنا وفتياتنا لمثل هذه البرامج، إذ أننا سنراهم يغرقون في عباب بحر من أفكار البرامج المستنسخة التي تشوه الأخلاق وتجرها إلى وحل الغرائز ومستنقع الخواء.
برامج تمسخ المشاعر وتصور الحب الزائف وتمسح العقول حتى في أسمائها (سوبر ستار) و(ستار أكاديمي) و(الأخ الأكبر) و(عالهوا سوا) وغيرها من البرامج تصور الاهتمام بالمواهب الشابة وتفتح أمامها أفقاً رحبة ولكنها للأسف تقتلها في مهدها إذ قلنا بأننا في حاجة إلى مثل هذه المواهب لنهتم بها وحتى برامج المسابقات لم تسلم من سيل الاستنساخ حيث إن أغلبها يقوم على بث التفكير في الوصول إلى المادة والبحث عنها دون الشعور بأهمية الحصول على المعلومة.
سؤال يُطرح
هل نحن بالفعل بحاجة إلى هذا النوع من البرامج؟ هل نحن غير قادرين على إنتاج وتوليد برامج محلية تواكب طموحاتنا وتطلعاتنا؟ وإذا كنا في حاجة إلى التطلع إلى ما وراء البحر والوقوف على ثقافة الآخر فهل هذه هي الثقافة التي نحتاج أن نجعلها بذوراً لتفكير شبابنا وأن نطوع جهودنا لاستنساخها؟
واقع الحال بالتأكيد يحمل الإجابة ويضع علامات الاستفهام خلف هذه الإجابة بدل النقطة.
ضوء شارد
قال الشاعر:
أعلل النفس بالآمال أرقبها
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل |
|