روى الطبري قصة هروب آخر ملوك فارس (يزدجرد) من بلد إلى بلدٍ في قصة طويلةٍ ليس هذا المقام مناسباً لسردها، لقد هَرَب متخفياً أحياناً، ظاهراً حيناً، مستنجداً بملوك الأرض وكأنه لم يكن صاحب إحدى القوتين في العالم آنذاك، هرب من وجه جيوش الحقّ التي تحمل له ولغيره من البشر الهدى والخير والصلاح، هرب برغم نصائح كثيرٍ من جنود ورجال دولته له بمصالحة المسلمين، والاتفاق معهم على ما يمكن أن يحفظ له شيئاً من مكانته وملكه، هرب وفي ذهنه أنها جولةٌ ستنتهي بهزيمة المسلمين وعودته إلى مكانته (الكسروية) التي كان بها حاكماً مستبدًّا بالحكم، مستقلاً بالسيادة والملك.
يروي الطبري عن يزدجرد أنه راسل ملوك الأرض - في ذلك الوقت - لنجدته ومساعدته في استعادة ملكه وملك أسرته الساسانية العريقة، لقد كان يبعث بالرسائل إلى الملوك، وبلاده تسقط بلداً بعد بلد، وملكه يتضاءل يوماً بعد يوم، وكان من بين الملوك الذين استنجد بهم ملك الصين، حيث بعث إليه برسول ثقةٍ يحمل رسالته المكتوبة، ولما وصل الرسول الفارسي إلى ملك الصين رحب به وأظهر الاحتفاء بوصوله، وقرأ رسالة يزدجرد وقال لرسوله:
إن نصر الملك حقٌ علينا جميعاً، فقد جرت العادة أن ينصر الملوك بعضهم إذا احتاجوا إلى ذلك، ولكنني أودُّ أن أسألك عن هؤلاء القوم الذين هزموكم وهم قلةٌ كما تذكر، مع أنَّ لكم من كثرة العدد وقوة الدولة ما يتفوق عليهم، فإنَّ هذا الأمر لا يحدث إلا بسببٍ خيرٍ فيهم، وشرٌّ فيكم، فأخبرني عن دعوتهم، إلى أي شيءٍ يدعون؟ قال رسول يزدجرد: فأخبرته بما يدعون إليه من الخير والعدل ومكارم الأخلاق، والإنصاف، والصلاة، والعبادة، والوفاء بالوعد، وأداء الأمانة، فقال يزدجرد: فكيف طاعتهم لقوادهم؟ فقلت: هم أشد الناس طاعة لقوادهم، وإذعاناً لأوامرهم، فقال يزدجرد: وهل تخالف أفعالهم أو شيئاً منها أقوالهم؟ فقلت: كلا فهم أبعد الناس عن ذلك، فقال: وهل يحرمون حلالاً يرونه أو يُحلِّون حراماً ينهون عنه؟
فقلت: كلا فهم أبعد الناس عن فعل الحرام فكيف يحللونه، وأبعدهم عن ترك الحلال، فكيف يحرِّمونه، قال: فسكت ملك الصين ساعة ثم قال: والله لا يُهزم هؤلاء ما داموا بهذه الصفات، وانهم لو أرادوا إزالتي من مكاني هذا لاستطاعوا ما داموا على هذه الحالة التي وصفت، وإني لأرى للملك يزدجرد رأياً صواباً، أن يسالمهم ويصالحهم فإنَّه لا قِبل له بهم، وسيصلون إلى ما يريدون، ولو أنهم بلغوا أرضي لدافعتهم بالتي هي أحسن، ولن يُوقف قوتهم أحدٌ من البشر، وسيبقون على حالهم من القوة والنصر حتى يخالفوا ما هم عليه، فإذا حرّموا الحلال، وحللوا الحرام هُزموا وذهب عزُّهم، وضعفت قوتهم.
ثم بعث ملك الصين برسالة تحمل هذه المعاني وبهدايا ثمينة إلى يزدجرد مع رسوله، واعتذر عن إمداده بقوة لأنه على يقين أنها لن تجدي شيئاً مع قومٍ يحملون من الإيمان بمبادئهم الخيرة ما يحملون.
ولكن يزدجرد لم يستمع إلى نصيحة ملك الصين، وتناسى في غمرة اعتداده بتاريخه، وتعصُّبه لملكه ان أهل الصين أهل رأي وحكمة ومشورة.
وكانت نهاية يزدجرد التشرُّد، والاختفاء في أرياف بلاد فارس وخراسان، في حالةٍ تحمل من العبرة والموعظة ما تلين له صُمُّ الجبال.
إنَّ في قول ملك الصين: (فإذا حرَّموا الحلال، وحللوا الحرام هُزموا وذهب عزُّهم، وضعفت قوتهم ما يوحي بحال المسلمين اليوم الذين تنضح قنواتهم الفضائية وكثير من وسائل إعلامهم بما يدل على أنَّ أكثرهم قد وقعوا في حفرة تحريم الحلال، وتحليل الحرام التي أشار إليها ملك الصين، ولهذا كانت حالتهم في هذا العصر على ما نرى من الضعف والذل والهوان.
إشارة:
حصان أمتنا ما زال مقتدراً
على التجاوز، لكن الحصان كبا |
|